الباروديّ والنَّفَس

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة 11 كانون الثاني 2023)

 

قبل أيّام صدرت قائمة بأفضل المطابخ العالميّة، وضعها موقع Taste Atlas الشهير، احتلّ فيها الإيطاليون المرتبة الأولى بسبب الباستايات والرافيوللي والبيتزا. الموقع معروف جدّاً في عالم السياحة، وهو يُعرّف عن نفسه بأنّه “دليل سياحيّ للطعام،” فيه وصفات أطعمة وتقييمات مطاعم عالميّ  (Restaurant Reviews). أسّسه صحفيّ كرواتيّ سنة 2018، وقد جاءت بلده “كرواتيا” بحسب التصنيف، في المرتبة 17 عالميّاً.

الغريب في الأمر أنّ الولايات المتّحدة الأميركية احتلّت المرتبة الثامنة عالميّاً، مع أنّ الأميركيّين ليس لهم “مطبخ” يتفاخرون به، وباستثناء “الهامبرغر” لم يقدّموا وجبة طعام تذكر للبشريّة. والأغرب في الأمر أيضاً أنّ الولايات المتّحدة تقدّمت على فرنسا في هذا التقرير، التي وضعت في المرتبة التاسعة.

أمّا الأغرب من كلّ ذلك، فهو تدنّي تصنيف البلدان العربية في تقرير Taste Atlas، حيث جاءت “سورية” في المرتبة 37، بعد دول مثل بريطانيا والنرويج وجمهورية التشيك، وجاء لبنان في المرتبة 40، تليه فلسطين في المرتبة 42. ولا يأتي التقرير على ذكر العراق ومصر والأردن، ويعدّ المطبخ الصينيّ مثلاً متفوّقاً على هذه الدول مجتمعة (جاءت الصين في المرتبة رقم 11).

أزعجني هذا التقييم الجائر، ليس من باب التعصّب؛ ولكن لأنّ جودة الطعام في بلادنا العربية قد تكون من الأمور القليلة المتبقية التي ما تزال على ما يرام في هذه البقعة من الأرض. في هذه البلاد أمرٌ فريد وجوهريّ لا تعرفه الدول الغربيّة، وهو “النَّفَس”…وهي كلمة عاميّة عجز المترجمون عن نقلها إلى لغات أجنبيّة، تعني “الطبخ بحبّ وشغف.”

النفس لا يُدرس في الجامعات والمعاهد، ولا يمكن أخذه عن أيّ كتاب أو معجم. إنّه يأتي إمّا بالتوارث الشفهيّ عبر الأجيال، أو بالممارسة المستمرّة، وله علاقة مباشرة بجودة الموادّ المستعملة في الطهي ومقاديرها. ولكن كثيراً ما تستعمل الموادّ نفسها والمقادير نفسها، ويختلف الطعم جذريّاً بسبب تغيّر الطاهي.

مصطلح “النفَس” غير علميّ من الناحية المادّيّة، فهو يدخل في التحليلات النفسيّة و”المزاج،” مع تراكم الخبرات لدى الطاهي. أنا ابن أسرة دمشقيّة كان “نفَس” سيّداتها عالياً جدّاً. جدّتي رحمها الله كانت ترفض دخول عتبة المطبخ إذا لم يكن فيه سمن عربيّ أصيل، وكان للطهي في منزلها لوازم خاصة…يتقدّمها صوت أمّ كلثوم القادم عبر المذياع.

أذكر جيّداً وقوفها في المطبخ لساعات وساعات وهي “تحاكي” الطعام عبر مراحل تحضيره المختلفة، وكأنّه طفل صغير يحتاج إلى رعاية فائقة.  نحن من بلاد يأخذ تحضير “اليبرق” فيه ساعات طويلة، ويحتاج إلى حجر لتثقيله فوق نار هادئة. نحن قادمون من بلاد يخاط فيها اللحم بالخيط، بعد حشيه بالرز القصير لتحضير أكلة “الباسماشكات.”

ممّا لا شكّ فيه أنّ الطهي في بلادنا العربيّة كان وما يزال فنّاً من نوع خاصّ، لا يقلّ أهمّية عن نحت التماثيل، ورسم اللوحات الزيتيّة. في الماضي البعيد، كان سلاطين بني عثمان يستحضرون الطهاة خصيصاً من بلاد الشّام، نظراً لنفَسهم المعروف، ويطلبون إليهم “اختراع” وجبات جديدة، يُمنحون مقابلها نقوداً أو مراتب تشريفيّة، وهذا ما يفسّر التفنّن في بعض الوجبات السورية.

ذات يوم اتّصل نائب دمشق فخري الباروديّ بمجموعة باحثين شباب كانوا يعملون في أوّل مركز دراسات عرفته سورية، وهو مكتب الباروديّ للدعاية والأنباء. وضع أمامهم كتاب الطبيخ للمؤلّف محمّد بن حسن البغداديّ، الصادر في العراق سنة 1934 نقلاً عن مخطوط قديم عائد إلى العصر العباسيّ، عُثر عليه في جامع آيا صوفيا في إسطنبول.

أراد الباروديّ أن يعيد طباعته في دمشق، وقال للباحثين الشباب: إنّ هذا العمل التوثيقيّ لا يقلّ أهمّية عن مقارعة الفرنسيّين في الشوارع والساحات العامّة، لأنّه “يحفظ هويّة المأكولات العربيّة.”

سخر كثيرون من سعي البارودي إلى توثيق الطبيخ، وعدّوا أنّ هناك أموراً أهمّ وأخطر وأنفع يمكن للباحثين العرب أن يقوموا بها. وانتظرت النسخة السوريّة من كتاب “الطبيخ” حتى سنة 1964 لترى النور، بعد أن ذيّلها الباروديّ بملحق خاصّ عن المطبخ الشّاميّ وأطباقه المتنوّعة، مع بيان كيفيّة تحضيرها.

مات الباروديّ بعدها بسنتين، ولو خرج من قبره اليوم، لطلب إلينا غاضباً أن نعيده إلى اللحد، بعد أن أصبحت “التبّولة” إسرائيليّة، وكذلك “الفلافل” و”الحمّص.” ولكان قد شهق من شدّة تأثّره من رؤية مطبخ بلاده في المرتبة 37 من قائمة Taste Atlas، بعد الولايات المتّحدة…وإنجلترا…والصين، وغيرها من الدول.

***

 

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *