ابن الجلاء…وداعاً

 

سامي مروان مبيّض (دمشق، 7 كانون الأول 2020)

 

“الله يطوّل بعمرك عبد الله بك…” كانت هذه العبارة هي التي أودع بها مُعلمي الكبير الأستاذ عبد الله بك الخاني، خلال زياراتي الأسبوعية المُتكررة له منذ عام 2000. وفي السنوات العشر الأخيرة كان دائماً يُجيب: “أكثر من هيك؟ يا ريتو الله ما طوّل بعمري وما شفت شو صار ببلدي.”

ثم كان ينظر إلى سماء دِمَشق بكثير من الحُزن والألم وإلى أعمدة الدخان الأسود المتصاعدة منها ويقول: “يا حوينت هالبلد.”

اليوم تحققت أمنية عبد الله بك. لَفَظ أنفاسهُ الأخيرة مع الشهادتين، ليُغادر عالمنا ويحلّق بروحه المرحة والطيّبة إلى سورية الماضي، سورية التي عرفها وأحبها وعمل جاهداً من أجلها طوال حياته المديدة. يجتمع اليوم مع زوجته أمل إبراهيم باشا، المُحسنة الكبيرة التي فارقت دنيانا قبل ثمانية أشهر…ومع الرئيس الجليل هاشم الأتاسي الذي اعتاد على تقبيل يدهُ في الصباح الباكر من كل يوم وهو داخل على مكتبه في الطابق العلوي من القصر الجمهوري القديم في حيّ المهاجرين.

كان يقول لي: “اثنين فقط قبلت يدهم بحياتي، أبي وهاشم بك.”

يعود اليوم إلى مقاعد الكلية العلمية الوطنية التي درس فيها بسوق البزورية، وإلى سيارين الغوطة مع صديق الطفولة والصبا نزار قباني. يعود إلى مظاهرات دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، والهروب من هراوات جنود السنغال التي كانت تطارده مع رفاقه، إلى كركون الشيخ حسن…إلى سوق الحميدية…وإلى باب البريد وحارات الصالحية.

يدخل مجدداً إلى مجلس الأمن، الذي أعلن من على منبره نبأ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر باسم المجموعة العربية سنة 1970، وإلى قاعات محكمة العدل الدولية في لاهاي، ليُقدم تقريره الدوري عن حرب البوسنة والهرسك. يرتدي بدلته البيضاء الأنيقة ويصعد سلّم السراي الكبير في ساحة المرجة أو يدخل إلى قصر المهاجرين ليلقي تحيّة المحبة والاحترام على مُعلمه الأول وصديقه الرئيس الراحل شكري القوتلي.

يعود للوقوف على تلك المنصة الأنيقة التي نُصبت على ضفاف نهر بردى يوم 17 نيسان 1946، لمشاهدة الاستعراض العسكري المهيب بمناسبة عيد الجلاء الأول. تأتي مجموعة من الدرك أولاً، ومن ثمّ فرسان الجيش السوري الخيّالة على جيادهم البيض، يليهم فرق من كشّاف سورية وبعدهم رجالات الثورة الوطنية الكبرى، حاملين صورة كبيرة للشهيد يوسف العظمة.  ينظر إلى الرئيس القوتلي ويقول: “جلاء مُبارك فخامة الرئيس.”

دخل الخاني على شكري بك شاباً طموحاً سنة 1947، بتزكية شفهية من رئيس جامعة دمشق الدكتور سامي الميداني، فطلب منه الرئيس القوتلي متابعة مجريات مجلس الأمن حول قرار تقسيم فلسطين، نظراً للغته الإنكليزية المتينة التي تعلّمها في الجامعة الأميركية في بيروت. أحبه الرئيس القوتلي وقرر الاحتفاظ به، ولكنّه لم يجد شاغراً له في ملاك القصر الجمهوري، فطلب منه أن يصبر قليلاً. ومن بعدها تم تثبيته في الأمانة العامة للقصر، ليُصبح مديراً للبروتوكول ومن ثمّ أميناً عاماً للرئاسة السورية. عمل مع الرؤساء القوتلي والأتاسي، ومع حسني الزعيم والرئيس أديب الشيشكلي الذي أرسله إلى فرنسا لتعلّم أصول البروتوكول من قصر الرئيس شارل ديغول. شارك بمفاوضات الوحدة مع مصر، حيث أصبح سفيراً من بعدها، ثمّ بات أول وزيراً للسياحة في سورية في عهد الرئيس حافظ الأسد، وأخيراً انتُخب قاضياً دولياً في محكمة العدل الدولية ومن ثم مُحكماً في القضايا الرياضية في الألعاب الأولمبية الدولية.

عرف الكثير من الشخصيات التاريخية، وظلّ الرئيس شكري القوتلي الأقرب إلى قلبه حتى الممات. أذكر أني عرضت عليه نصاً درامياً عن حياة الرئيس، لم ير النور، كنت قد كتبته مع الصديق مصطفى السيّد، وفيه مشهد يجمع بين عبد الله بك والرئيس القوتلي سنة 1956. في الحوار المكتوب، يقول الخاني للقوتلي: “تكرم فخامة الرئيس.” شطبها عبد الله بك بقلمه وقال: “لا يخاطب رئيس الجمهورية بهذا الشكل. الأصح أن أقول له: “أمرك فخامة الرئيس.”

عايش الحرب العالمية الثانية وعشرين انقلاباً، قبل أن يصل به المطاف إلى الحرب السورية الأخيرة التي استنزفت الكثير من قلبه وعقله، وتوفي في الساعة التاسعة من صباح يوم 7 كانون الأول 2020 عن عمر ناهز 98 عاماً. كان لي شرف الانضمام إلى مجلسه الأسبوعي، وكنت أفتخر كثيراً بأنه طالما وصفني بأحد أبنائه لأنه لم يرزق بذكور. كان كريماً جداً معي، بعواطفه وعِلمه وكتبه النادرة والنفيسة، وقد علمني الكثير الكثير حتى أنه وضع مقدمة كتابي “عبد الناصر والتأميم” الذي صدر في العام الماضي في بيروت، لتكون آخر ما كتبه عبد الله الخاني. وقد قبل مشكوراً أن يكون عضواً في مجلس حكماء مؤسسة تاريخ دمشق، التي بارك حفل إشهارها بحضوره الكريم في فندق الأوريانت بالاس قبل ثلاث سنوات.

اتصل بي للتعزية بوالدي قبل أشهر قليلة، وعندما اتصلت به مُعزياً بزوجته بعد ساعة من وفاتها قال لي، بمنتهى اللباقة واللطف: “أنا مقصر معك وأعتذر لأني لم أتمكن المباركة بولادة ابنتك.” هنا تجلّت أخلاق هذا الرجل الكبير، الذي تذكر ابنتي وهو يودع زوجته. ثم سألني عن اسمها فقلت له “ليلى يا بك.” ضحك وقال: “قيس ابنُ عمي عندنا…يا مرحبا يا مرحبا!”

وفِي آخر لقاء له مع جريدة الوطن قبل سنوات، قال: “لم يبق سوى القارة المتجمدة لم أزرها، وما من بلد أعظم من دمشق.”

عبد الله بك، كان شعلة نور تضيء حياة كل من عرفه وعمل معه. وداعاً سيدي الفاضل، لك المجد ولسورية الحبيبة طول البقاء من بعدك.

سلّملي على أبي…وعلى شكري بك.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *