هل تجد حماس إلهاماً في أيلول الأسود؟
سامي مروان مبيّض (المجلة، 5 أيلول 2024)
في مثل هذا اليوم من عام 1972، قام مسلحو منظمة أيلول الأسود بعملية معقدة في مدينة ميونيخ الألمانية عند استضافتها للدورة الصيفية للألعاب الأولمبية. اتخذت المجموعة اسمها من أحداث سبتمبر/أيلول الدامية في الأردن قبلها بسنتين، وأولى ضحاياها كان رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، الذي اغتيل في فندق شيراتون القاهرة يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1971، ثم جاءت عملية ميونيخ التي كُتب عنها الكثير، وجسّدت في السينما والتلفزيون مراراً، والتي راح ضحيتها 11 رياضياً إسرائيلياً، وخمسة مقاتلين فلسطينيين، وشرطي ألماني.
كانت ميونيخ 1972 بالنسبة لظرفها وحجمها، من أكبر وأشهر العمليات الفلسطينية حتى ذلك التاريخ، تشبه – من حيث الصدمة والتأثير – ما حدث في إسرائيل يوم عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. اختلف شكل المقاتل الفلسطيني، من فدائي ثائر متأثر بغيفارا وبقية رموز اليسار العالمي، إلى جهادي ملتحٍ من حركة حماس، متأثر بجماعة الإخوان المسلمين. أما الهدف فقد بقي نفسه، حتى لو اختلفت أساليب القتال واختلفت دوافعه.
تفاصيل عملية ميونيخ
اختارت منظمة أيلول الأسود ألمانيا الغربية لتنفيذ عمليتها، التي كانت تفاخر بأن دورة عام 1972 ستكون الأولى في البلاد منذ أن استضاف أدولف هتلر دورة عام 1936 واستعملها للترويج للرايخ الثالث. قال المسؤولون الألمان إن دورة عام 1972 ستكون “آمنة” وبعيدة كل البعد عن السياسة. ولكن وفي الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم 5 سبتمبر، تسلل ثمانية مسلحين فلسطينيين إلى “القرية الأولمبية،” متجهين بأسلحتهم إلى مقر إقامة الفريق الإسرائيلي. حاول مدرب المصارعة الإسرائيلي اعتراضهم فقتلوه، وقتلوا معه الرباع الإسرائيلي يوسف رومانو. خطفوا تسعة لاعبين، وطالبوا بإطلاق سراح أكثر من 200 فلسطيني معتقلين في السجون الإسرائيلية. وبعد أن ظنوا أنهم توصلوا إلى اتفاق مرضٍ مع السلطات الألمانية، خرجوا مع الرهائن على متن حوامات نقلتهم إلى قاعدة جوية غرب “القرية الأولمبية،” حيث كانت الشرطة الألمانية في انتظارهم، وبعض عناصرها بزي موظفي شركة طيران لوفتهانزا. شعر الفلسطينيون أنهم خدعوا، وعندما انهال عليهم الألمان بالرصاص، دارت معركة عنيفة استمرت قرابة العشرين ساعة، مات على أثرها الرياضيون الإسرائيليون.
اعتمدت أيلول الأسود على خلايا صغيرة لا يتجاوز عددها الأربعة أشخاص للخلية الواحدة، لا يعلم أعضاؤها اسم ومكان وجود أية خلية أخرى حتى لو كانت على بعد أمتار في الشارع نفسه.
ردت رئيسة الحكومة الإسرائيلية في حينها غولدا مائير بعملية انتقامية سمّيت غضب الرب، طالت عدداً من القياديين الفلسطينيين في أوروبا. استغرق الرد الإسرائيلي سنوات طويلة، وتضمن مقتل القائد الفلسطيني علي حسن سلامة في بيروت يوم 22 يناير/كانون الثاني 1979، المقرب من ياسر عرفات والمسؤول عن أمنه. أي إن إسرائيل ظلت تنتقم وتنتقم طيلة سبع سنوات، حتى بعد خروج غولدا مائير من الحكم في أعقاب حرب أكتوبر 1973. هذا طبعاً يذكر بالعمليات الانتقامية الإسرائيلية التي تجري اليوم رداً على طوفان الأقصى، والتي كانت بدايتها مع اغتيال صالح العاروري، القيادي في حركة حماس في بيروت يوم 2 يناير 2024، والقائد العسكري محمد الضيف في غزة يوم 13 يوليو/تموز، وصولاً لرئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية الذي اغتيل في طهران يوم 31 يوليو.
شهادة أبو إياد
في مذكراته، ينفي القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) أن يكون له أي دور في عمليات أيلول الأسود، ويقول جامع المذكرات، الدبلوماسي الفرنسي أريك رولو: “لم تكن في الحقيقة (أيلول الأسود) منظمة لها بياناتها وأهدافها، وإنما هي عبارة عن تكتل مجموعات من الكوماندوز الفلسطينيين الذين لا تربطهم روابط عضوية،” مضيفاً: “كان الكثير من كوادر فتح يحركون هذه المجموعات ومن المرجح أن الرجل الذي ترأس هذه المنظمة كان يوسف النجّار الذي كان مسؤولاً في تلك المدة عن جهاز أمن (فتح).” وكان يوسف النجّار أحد ضحايا الرد الانتقامي الإسرائيلي، يوم قتل مع اثنين من رفاقه في بيروت منتصف أبريل/نيسان 1973. وفي الترجمة الإنجليزية لمذكرات صلاح خلف، يقول: “كانت منظمة أيلول الأسود وحدة رديفة لحركة المقاومة… وكان أعضاؤها ينكرون وجود أي علاقة بينها وبين فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية.”
من هي جماعة أيلول الأسود؟
كل عمليات أيلول الأسود كانت غير تقليدية، وكذلك أهدافها وتنظيمها. شرّعت مقولة: كل مواطن إسرائيلي هدف مشروع، مدنياً كان أم عسكرياً، وكل بقعة في العالم يوجد فيها إسرائيلي، فهو هدف مشروع أيضاً وأرض معركة. تبنّت المنظمة اغتيال دبلوماسي إسرائيلي في لندن يوم 19 سبتمبر 1972، بعد أسبوعين من عملية ميونيخ، وقتلت أحد عناصر الموساد في مدريد في يناير 1973، مع تبنيها للهجوم الإرهابي على السفارة السعودية في الخرطوم يوم 1 مارس/آذار من العام نفسه، وتفجير كنيس مدينة أنتويرب البلجيكي عام 1981. المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس يقول إن فكرة أيلول الأسود ولدت في مؤتمر لحركة فتح عقد في دمشق بين أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 1971، وأنها أعطيت كل ملفات فتح الأمنية، ووضع تحت تصرفها مئات المجندين العرب والفلسطينيين.
ثلاثة فلسطينيين أُعتقلوا في 6 سبتمبر 1972 في ميونيخ بعد فشل قوات الشرطة الألمانية في تحرير الرهائن الذين احتجزتهم جماعة أيلول الأسود
واعتمدت أيلول الأسود على خلايا صغيرة لا يتجاوز عددها الأربعة أشخاص للخلية الواحدة، لا يعلم أعضاؤها اسم ومكان وجود أية خلية أخرى حتى لو كانت على بعد أمتار في الشارع نفسه، وذلك لتجنب ملاحقة الخلية في حال تعرض الخلية الأخرى للمراقبة أو الاعتقال. وإمعاناً في تضليل الإسرائيليين، هاجم ياسر عرفات منظمة أيلول الأسود مراراً وأمر بحلّها في سبتمبر 1973، بعد عام واحد على أحداث ميونيخ.
أما القيادي الفلسطيني محمد داود عودة (أبو داود) الذي تعتقد معظم الأجهزة الأمنية الغربية أنه العقل المدبر وراء عملية ميونيخ، فقد قال إنه لا يوجد تنظيم اسمه أيلول الأسود، مدعياً أن عرفات اتخذ هذا الاسم الوهمي لتنفيذ عملياته العسكرية، دون نسبها له وليتمكن من الابتعاد عنها وإدانتها عند الضرورة، ليقول للزعماء العرب إنه هو الوحيد القادر على ضبط عملياتها الخارجة عن سلطة فتح ومنظمة التحرير.
هل تنشئ حماس تنظيماً جديداً للقيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل، عندما يتوقف القتال في غزة، كما فعل أبو عمّار قبل خمسة عقود ونيف؟
وكان عودة قد انتسب رسمياً إلى حركة فتح سنة 1970 وحارب بسيفها قبل عملية ميونيخ وبعدها، مؤكداً أن كل الذين قتلتهم إسرائيل في عملية غضب الرب لا علاقة لهم يعملية ميونيخ. وقد قضى عودة مدة زمنية متنقلاً بين لبنان وأوروبا الشرقية، حيث تعرض لمحاولة اغتيال في مدينة وارسو يوم 1 أغسطس 1981. وانتقل إلى رام الله بعد التوقيع على اتفاق أوسلو وتوفي بدمشق سنة 2010. وفي مقابلات عدة، قال إن فكرة العملية ولدت في أحد مقاهي الرصيف في روما، وجاءت كل أسلحتها من ألمانيا. وفي لقاء له مع وكالة أسوشييتد برس سنة 2006، قال أبو داود: “قبل ميونيخ كنا مجرد إرهابيين، وبعدها بدأ الناس يسألون: من هم هؤلاء الإرهابيون؟ ماذا يريدون؟ قبل ميونيخ لم يكن أحد يعلم أدنى شيء عن فلسطين.” ويضيف أبو داود أنهم لم يكونوا يريدون قتل الرهائن الإسرائيليين في ميونيخ، ولكنهم أجبروا على ذلك بعد الخداع الذي تعرضوا له من قبل الأجهزة الألمانية.
مضى على عملية ميونيخ سنوات طويلة، ويبقى السؤال إن كانت رواية أبو داود صادقة، وفي حال أن حركة فتح كانت فعلاً المحرك الخفي لمنظمة أيلول الأسود، هل تستفيد حركة حماس من هذه التجربة في المستقبل؟ هل تنشئ تنظيماً جديداً للقيام بعمليات عسكرية ضد إسرائيل، تماماً كما فعل أبو عمّار قبل خمسة عقود ونيف؟
عندما يتوقف القتال في غزة، سيصعب على حماس القيام بأية عملية نوعية ضد إسرائيل، لأن ذلك سيحرج الدول العربية ويشعل حتماً حرباً جديدة، وبذلك قد تلجأ إلى هذه الحيلة لاستمرار القتال، دون أن تكون مرتبطة بهذا التنظيم ارتباطاً مباشراً.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!