كيف أخرجت إسرائيل أبو جهاد من بغداد إلى تونس كي تغتاله؟

سامي مروان مبيّض (المجلة، 27 نيسان 2024)

باستثناء ياسر عرفات، لم يكن هناك اسم مألوف للفلسطينيين من أبناء جيل السبعينات والثمانينات، في الداخل والشتات أكثر من اسم خليل الوزير (أبو جهاد). لسنوات طويلة كان الوزير نائباً ومساعدا لأبو عمار، وظنّ الجميع أنه سيخلفه في قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. تاريخهما المشترك كان قديماً جداً، يعود إلى مرحلة تأسيس فتح سنة 1959، وقد عاشا مسيرة نضالية متشابهة، في فلسطين ومصر والكويت وسوريا والأردن ولبنان، وصولاً إلى تونس التي قتل فيها خليل الوزير يوم 16 أبريل/نيسان 1988.

أ ف ب

فلسطينيون يحملون صورا لياسر عرفات وأبو جهاد في بيت لحم، 1 يناير 2020لم يكن “أبو جهاد” يقضي وقتاً طويلاً في تونس العاصمة، وكان يرى أنها غير آمنة، وأنها سهلة الاختراق بالنسبة لإسرائيل، كونها مدينة سياحية مفتوحة أمام جنسيات العالم كافة. قبل سنتين من اغتياله، قصفت إسرائيل منطقة حمام الشط جنوب العاصمة التونسية، حيث كان مقر منظمة التحرير، وقتلت 68 فلسطينياً، بعضهم من شبابه وأنصاره. فضّل “أبو جهاد” البقاء في بغداد، حيث كانت القبضة الأمنية قوية بفضل الرئيس صدام حسين، ومع ذلك أجبر على المغادرة عندما قال له مدير المخابرات العراقية فاضل البراك إنه يوجد مخطط لاغتياله، ما جعله ينتقل إلى تونس في ربيع عام 1988.

كان “أبو جهاد” صلة الوصل بين عرفات وأجهزة المخابرات في كل من الجزائر والصين وكوبا

 

 

وبالعودة إلى التحذيرات العراقية نتساءل: هل كانت حقيقية أم إن إسرائيل أوحت بها لكي يغادر “أبو جهاد” بغداد؟ في تونس تلقى اتصالاً من صديقه السياسي المغربي محمد البصري من فرنسا، الذي قال إن معلومات “سرية للغاية” وصلته، تفيد بأن إسرائيل تحضر لاغتيال شخصية فلسطينية كبيرة، دون أن تسمي “أبو جهاد” بالاسم. قبل عشر سنوات كانت إسرائيل قد اغتالت القيادي الفلسطيني علي حسن سلامة في بيروت، وفي سنة 1973 نفذت عملية معقدة في حي فردان البيروتي السكني المعروف، ذهب ضحيتها ثلاث شخصيات قيادية فلسطينية. المنطق كان يقول إن “أبو جهاد” سيكون هدف إسرائيل المقبل.

كابوس إسرائيل

منذ بداية نشاط خليل الوزير السياسي من قطاع غزة منتصف خمسينات القرن العشرين، كان الرجل يشكل خطراّ حقيقياً بالنسبة لإسرائيل. كان خطيباً مفوها، ومفكراً استراتيجياً، وصاحب مشروع وطني طموح. ولد في مدينة الرملة، ودرس في مدارس وكالة الأونروا قبل انتقاله إلى مصر لإكمال تحصيله الجامعي، ولكنه لم يتخرج، وكرس كل وقته للعمل الفدائي. تعرف على ياسر عرفات سنة 1954، وشاركه تأسيس فتح عام 1959، وبعد وصول الأخير إلى رئاسة منظمة التحرير سنة 1969، كان الوزير صلة الوصل بينه وبين أجهزة المخابرات في كل من الجزائر والصين وكوبا. أشرف بنفسه على سلسلة عمليات عسكرية في الداخل الإسرائيلي، كان أشهرها اختطاف باص بالقرب من محطة ديمونة النووية في 6 مارس/آذار 1988.

أ ف ب

رجل فلسطيني يمر أمام جدارية لياسر عرفات و أبو جهاد في مدينة غزة في 6 أغسطس 2009

اختُطف في هذه العملية 11 إسرائيلياً من الركاب، وقُتل اثنان منهم قبل أن تقتحم الوحدات الخاصة الإسرائيلية الحافلة، وتقتل جميع الخاطفين الفلسطينيين. ولكن أهم ما قام به “أبو جهاد” كان التخطيط والتدريب لآلاف الشبان الفلسطينيين على مدى عقود طويلة، ودوره المحوري في الانتفاضة الأولى التي اندلعت داخل الأراضي المحتلة في ديسمبر/كانون الأول 1987، قبل أشهر من اغتياله. أعادت الانتفاضة الاعتبار إلى القيادة الفلسطينية المنفية والمنعزلة في تونس، وخطفت قلوب ملايين المسلمين والعرب.

شهادة أم جهاد

كتب الكثير عن عملية اغتيال خليل الوزير، ولكن أهم شهادتين حول هذه الحادثة جاءت على لسان زوجته انتصار الوزير (أم جهاد)، والثانية في كتاب انهض واقتل أولاً للصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان، الصادر عام 2018. اعتمد بيرغمان على لقاءات مع شخصيات استخباراتية وأمنية إسرائيلية بينما كانت أم جهاد حاضرة مع زوجها لحظة اغتياله، وهي من القيادات النسائية في حركة فتح، درست التاريخ في جامعة دمشق، وكانت وزيرة للشؤون الاجتماعية في السلطة الوطنية الفلسطينية في السنوات 1995-2005.  تحدثت عما جرى في بيتها ليلة 16 أبريل/نيسان 1988 قائلة:

الواحدة إلا الربع (صباحاً) سمعت صوت باب الدار ينكسر. ناس بتصرخ. دخلوا عنده بصرخة رعب. كانت الطاولة قدامه بغرفة النوم… كان يكتب عليها. دفش الطاولة، وركض يأخذ مسدسه من فوق الخزانة. أنا صرت قول: إيش في؟ إيش في؟ ما خطر ببالي إلا عملية فردان. قلت له: فردان… فردان… بس ما ردش.

 

عندما سقط “أبو جهاد” جريحا راح الكوماندوز الإسرائيليون يتناوبون بإطلاق الرصاص عليه، وأفرغوا كامل مخزونهم من الذخيرة في جسده

 

 

دخل أربعة من عناصر الكوماندوز الإسرائيليين إلى غرفة “أبو جهاد،” ملثمين يرتدون لباس الوحدات الخاصة التونسية. تقول أم جهاد إن زوجها أطلق عليهم النار، فردوا بالمثل، وأصابوه في صدره وذراعه اليسرى. وعندما سقط أمامهم جريحاً راحوا يتناوبون على إطلاق الرصاص عليه، وأفرغوا كامل مخزونهم من الذخيرة في جسده. وضع أحد الإسرائيليين أم جهاد أمام الحائط، وصوب مسدسه إلى وجهها لكيلا تلتفت إلى جثة زوجها الممزقة بالرصاص. وعندما دخل عنصر خامس لإطلاق مزيد من الرصاص على “أبو جهاد” بعد أن فارق الحياة، صرخت بألم وهي تبكي: “بس (كفى)” ثم سمعت صوت امرأة تُخاطب الجنود من الطابق السفلي باللغة الفرنسية وهي تقول: “تعالوا… تعالوا بسرعة.”

رواية الصحافي الإسرائيلي

في كتاب انهض واقتل أولاً يقول رونين بيرغمان إن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير ترأس اجتماعاً مصغرا للحكومة الأمنية في 14 مارس/آذار 1988، تقررت فيه تصفية “أبو جهاد” انتقاماً لقتلى عملية الباص ولدوره في الانتفاضة الأولى. صوت أربعة أعضاء ضد الاغتيال خشية من تداعياته السياسية والأمنية، بينما وافق ستة وزراء على العملية التي سميت “الدرس الأول.”

 

وصلت سفينة دعم إسرائيلية إلى شواطئ تونس، للتدخل السريع في حال فشلت المهمة أو واجهت أية صعوبات

 

 

كان جهاز الموساد يراقب منزل “أبو جهاد” واتصالاته في كل من بغداد وتونس، ويعرف كل تحركاته. عُين إيهود باراك، نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حينها، مشرفاً على العملية، وهو الذي قاد فرقة الكوماندوز التي نفذت عملية فردان عام 1973، وكان معه موشي يعالون، رئيس فرقة العمليات الخاصة. في سنوات لاحقة أصبح باراك رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وعُيّن يعالون رئيساً لأركان الجيش سنة 2002 قبل تسميته نائباً لرئيس الوزراء عام 2009. وقد تمرن عناصره على تنفيذ العملية في بناء كائن بمدينة حيفا، مطابق في الحجم والهيكل لفيلا “أبو جهاد” في تونس، حتى إن المسافة الفاصلة بينه وبين شاطئ البحر كانت متطابقة أيضاً.

عملية الاغتيال

وصل عناصر الموساد إلى تونس في 14 أبريل/نيسان، قادمين من أوروبا، واستأجروا سيارة فولكسفاغن، وأخرى بيجو 305 لنقلهم إلى منزل الهدف الفلسطيني. كانت الأوامر أن يغادر السائقون تونس عبر البحر عند انتهاء المهمة، وأن يقوم عناصر الاغتيال بحجز تذاكر سفر للعودة إلى أوروبا عن طريق رحلات جوية تجارية. وقد وصلت سفينة دعم إسرائيلية إلى شواطئ تونس، للتدخل السريع في حال فشلت المهمة أو واجهت أية صعوبات، محملة بأربعة وستين عنصراً إضافياً، ومعهم غواصة مرافقة، ومستشفى متنقل، يحوم فوقها في الأجواء طائرة من طراز بوينغ-707، مهمتها التشويش على الاتصالات الفلسطينية، وإيقاف الرادارات التونسية عند الطلب.

 

منذ سنة 1988 كانت إسرائيل تتجنب الحديث عن العملية، فلا تنفيها ولا تؤكدها

 

 

توجه اثنان من عناصر الاغتيال إلى منزل خليل الوزير، أحدهما متنكر في زي امرأة، والثاني يحمل علبة ملفوفة على شكل هدية، ومعهما خريطة للعاصمة التونسية. أبرزاها لأحد عناصر الفيلا وادعيا أنهما سائحان ضلا الطريق، وعندما أمسك بهما الشاب الفلسطيني لإرشادهما إلى الطريق، أطلقا عليه النار وقتلاه. كان “أبو جهاد” يُقيم في منطقة سيدي بوسعيد المحصنة والمعروفة، على مقربة من منزل السفير الأميركي، ومن منزل القيادي الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) الرئيس الحالي للسلطة الوطنية الفلسطينية. للتأكد من أن “أبو جهاد” كان موجودا في المنزل، أوصلت إليه إسرائيل خبر اعتقال صديقه المحامي فوزي أبو رجمة، وهو ما أزعجه كثيراً.

أ ف ب

لاجئون فلسطينيون يحملون نعش أبي جهاد خلال جنازته في دمشق في 20 أبريل 1988

أمسك جهاز الهاتف، واتصل بمصادر مختلفة للتأكد من الخبر، ما أعطى الإسرائيليين الإشارة التي كانوا ينتظرونها، بأنه موجود وجالس خلف طاولة مكتبه. دخلوا المنزل، وقتلوه وكان عددهم – بحسب شهادة رونين بيرغمان – سبعة، أفرغوا 76 رصاصة في جسده. إحدى الرصاصات أصابته في الوجه، ودخلت الثانية تحت قلبه. “أطلقت النار دون تردد” قال نعوم ليف، أحد العناصر المشاركين في العملية، في شهادته أمام رونين بيرغمان كانت هذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها أحد الإسرائيليين بقتل خليل الوزير. منذ سنة 1988 كانت إسرائيل تتجنب الحديث عن العملية، فلا تنفيها ولا تؤكدها، إلى أن جاء نعوم ليف بشهادته التي نشرت بداية في الصحافة قبل أن يتوسع فيها بيرغمان في كتابه.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *