عندما وقعت النكبة … كيف غنّاها الفنانون العرب؟
سامي مروان مبيّض (رصيف 22، 14 أيار 2024)
في أعقاب دخول القوات العربية المشتركة إلى أرض المعركة في فلسطين يوم 14 أيار/مايو 1948، قالت الإذاعات المحلية إن النصر سيكون قريباً، وإن فلسطين العربية ستحرر قبل نهاية العام. آمن الكثير من العرب بهذه الأقوال الزائفة، وتحضيراً للنصر المحتوم، ألّف الموسيقار السوري فريد الأطرش نشيداً وطنياً لإهدائه إلى الشعب الفلسطيني، على أن يكون نشيداً وطنياً لدولتهم الفتية عند ولادتها. وعندما اكتشف زيف المزاعم العربية وأن فلسطين دُمّرت ومُسحت من على وجه الخريطة العالمية، عاد ومزّق النشيد ولم يبقَ له أي أثر اليوم.
أقسم الأطرش على ألا يدخل فلسطين إلا بعد تحريرها بالكامل، وبعد نكسة عام 1967، غنّى أغنية وردة من دمنا” للفلسطينيين، بعد أن رفضت أم كلثوم تأديتها على الرغم من إعجابها بها، وغنّت بدلاً منها قصيدة أصبح عندي الآن بندقية، للشاعر السوري نزار قباني.
أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز
وكانت أم كلثوم قد لبّت طلباً خاصاً من القوات المصرية المحاصرة في قرية الفالوجة، بين الخليل وغزة، سنة 1948، وغنّت لهم أغنية غلبت أصالح بروحي، من كلمات أحمد رامي وألحان رياض السنباطي. كان بينهم يومها الضابط الشاب جمال عبد الناصر، الذي بعد وصوله إلى سدّة الحكم سنة 1954، شجّع أم كلثوم على تقديم المزيد من أجل الشعب الفلسطيني، وكانت “الست” مدينةً لهم بلقبها الشهير “كوكب الشرق” الذي أطلقوه عليها في أثناء زيارتها لهم سنة 1935، يوم غنّت على مسرح مقهى الشرق في مدينة القدس، قصيدة أفديه إن حفظ الهوى.
أقسم الأطرش على ألا يدخل فلسطين إلا بعد تحريرها بالكامل، وبعد نسكة عام 1967، غنّى أغنية “وردة من دمنا” للفلسطينيين، بعد أن رفضت أم كلثوم تأديتها على الرغم من إعجابها بها
أما العملاق الثالث عبد الحليم حافظ، فلم يغنِّ لفلسطين إلا سنة 1955، لأن شهرته الحقيقية بدأت مع ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، وقد دمج أغنيته الفلسطينية الأولى مع الثورة المصرية في ثورتنا المصرية، حيث قال: “ضد الصهيونية… بالمرصاد واقفين… وحترجع عربية، حبيبتنا فلسطين” ثم جاءت المطربة اللبنانية فيروز في مرحلة متقدمة من مسيرتها الفنية، وغنّت سنة 1955 راجعون، وهي دراما غنائية تُجري فيها حواراً مع عن مأساة الشعب الفلسطيني، وكانت مأخوذةً من ديوان مع الغرباء للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد.
تهجير الفنانين الفلسطينيين
كثُرٌ الذين غنّوا لفلسطين قبل النكبة، وفي مقدمتهم محمد عبد المطلب وبديعة مصابني ومحمد عبد الوهاب، في أثناء زيارته يافا سنة 1930، ولكن الأعمال المهداة إلى الشعب الفلسطيني تضاعفت بعد وقوع النكبة وانتشار قصص الظلم والتشرد التي حلّت بالفنانين الفلسطينيين، من رسامين وملحنين ومغنّين.
ذهب بعضهم إلى مصر ولكن الغالبية العظمى منهم استقرت في سورية ولبنان، حيث أثّروا كثيراً في المجتمعات الفنية فيهما، وتلقّوا دعماً من حكوماتهما للمضي قدماً في أعمال فنية عن النكبة، وهو الاسم الذي أُطلق على المأساة من قبل المؤرخ السوري قسطنطين زريق، رئيس الجامعة السورية في حينها.
الرسام داوود زلاطيمو مثلاً، هُجّر من القدس وترك لوحاته المستوحاة من الطبيعة في صفوف مدرسة اللد حيث كان يدرس، لتستولي عليها عصابات الهاغانا، بينما أُخرج الفنان شريف خضرا من منزله في صفد إلى سورية، وكان الفنان جورج فاخوري، مدرّس الرسم في عكا، قد هُجّر هو الآخر إلى بيروت وفُقدت كل أعماله، وترك الفنان خيري بدران مرسمه في مدينة المجدل، حيث كان يدرس الرسم والخط العربي، ودمّر الصهاينة كل أعماله. أما الفنان توفيق جوهرية، فقد ترك مرسمه في القدس، وأُجبر المغنّي الشعبي الفلسطيني خميس نوارج، على ترك بيته في طبريا، بعد أن كانت له فيها شهرة كبيرة، ليعمل عتّالاً في شوارع دمشق.
هُجّر الموسيقي الفلسطيني الكبير روحي الخماش، من منزله في نابلس إلى العراق، وكان من البارعين في العزف على العود وتقديم الدور والموشحات، وهُجّر معه الموسيقار رياض البندك من بيت لحم إلى سورية ومن ثم إلى لبنان.
جاوز الظالمون المدى
من أوائل القصائد التي ظهرت عربياً عن فلسطين سنة 1948، كانت أخي، للشاعر المصري علي محمود طه، والتي حوّلها محمد عبد الوهاب إلى أغنية شهيرة بعنوان فلسطين، وتقول أبياتها: “أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد وحق الفدا.” سُجّلت في القاهرة يوم 11 حزيران/يونيو 1948، ولم يلحنها عبد الوهاب بأسلوب النشيد التقليدي، لكون كلماتها بعيدةً عن الحماسة، بل وضع لها لحناً حزيناً للتعبير عن حجم المأساة الفلسطينية.
حققت الأغنية نجاحاً باهراً وقد قدّمها عبد الوهاب من تلقاء نفسه لشعوره القومي تجاه القضية الفلسطينية، دون تكليف رسمي لا من حكومة بلاده ولا من الفلسطينيين. وكانت قبله الفنانة السورية سهام رفقي، قد غنّت سنة 1946 أغنية “يا فلسطين جينالك جينا”، ولكنها بقيت مغمورةً ولم تنَل شيئاً من شهرة أغنية عبد الوهاب.
وقد ألهمت أغنية فلسطين أو أخي، سيلاً من القصائد المماثلة في إذاعة دمشق، ظهرت كلها في السنوات 1948-1950، مثل إلى فلسطين للمطربة ماري جبران، و”أنت لنا” للمطربة السورية كروان، وقصيدة “الجهاد” للشاعر سليمان العيسى التي غنّاها المطرب السوري الأول في حينها رفيق شكري، قبل أن يقدّم نشيد الانتصار.
كثُرٌ الذين غنّوا لفلسطين قبل النكبة، وفي مقدمتهم محمد عبد المطلب وبديعة مصابني ومحمد عبد الوهاب، في أثناء زيارته يافا سنة 1930، ولكن الأعمال المهداة إلى الشعب الفلسطيني تضاعفت بعد وقوع النكبة وانتشار قصص الظلم والتشرد التي حلّت بالفنانين الفلسطينيين.
ودُعيت الفنانة اللبنانية نجاح سلام للغناء في إذاعة رام الله سنة 1949، بعد أشهر على النكبة، وأحيت فيها عدداً من الحفلات في بيت لحم ونابلس، تبرعت بريعها إلى الشعب الفلسطيني، وقدّمت أغنية “يا زائر مهد عيسى”، من كلمات بولس سلامة وألحان والدها محي الدين سلام.
فتاة من فلسطين
أما الفنانة المصرية سعاد محمد، فقد مثّلت دور البطولة في فيلم فتاة من فلسطين، سنة 1948، وهو أول فيلم عربي عن القضية الفلسطينية، أنتجته الرائدة المصرية عزيزة أمير، دعماً للقضية. كتبت أمير قصة الفيلم بنفسها، وأخرجه محمود ذو الفقار وكان يحكي عن ضابط طيّار سقطت طائرته في إحدى قرى فلسطين وعثرت عليه شابة فلسطينية تُدعى “سلمى،” واستضافته في منزلها وقامت بمعالجته، وفي الفيلم غنّت سعاد محمد مجموعةً من الأغنيات عن فلسطين، كانت أشهرها بنت البلد، ويا ماجد في سبيل الله، من كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي ومحمد القصبجي.
عُرض الفيلم في سينما دمشق في العاصمة السورية، وحضره حسني الزعيم، قائد الانقلاب السوري الأول الذي كان قائداً للجيش السوري في أثناء الحرب الفلسطينية، وقد أوصى السينمائيين السوريين – على قلّتهم حينها – بأن ينتجوا فيلماً سورياً مماثلاً عن مأساة الشعب الفلسطيني، ولكنه قُتل قبل أن يحقق حلمه في 14 آب/أغسطس 1949.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!