سيّدة كل الأزمنة: في ذكرى رحيل أم كلثوم

 

سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة، 3 شباط 2022)

 

في أيامها الأخيرة، كانت جدتي تُعانى أمراضاً شتى، معظمها ناتج إمّا عن الشيخوخة أو التدخين، إضافة للحزن الشديد على وفاة أصغر أولادها. طلب منا الأطباء نقلها من المستشفى إلى المنزل، لكي تُمضى أيامها الأخيرة في سريرها، محاطة بأفراد أسرتها. دخلتُ عليها يوما، ووجدتها بحالة ثبات، لا تتكلم ولا تُجيب، وقيل لي: “هي الآن بين ألطاف ربّ العالمين.”

وفى هذه الأثناء، ظهرت السيدة أم كلثوم على شاشة التليفزيون، فلمعت عينا جدتي وعاد اللون إلى وجهها الشاحب، وكأنها أخذت جرعة مضاعفة من الأكسيجين. نهضت من سريرها وقالت، وهي تتحدث مع نفسها لا معنا: “الله الله عليك يا ست. هذه المناسبة تحتاج إلى ماذا؟ تحتاج إلى سيجارة.”

أخرجت نبيهة هانم سيجارة وأشعلتها (عَلماً بأن الأطباء كانوا قد منعوها منعا باتا من التدخين)، متحدية كل أنابيب الأكسيجين المعلّقة. ثم التفتت إلينا وخاطبتنا بنبرة صارمة: “أولادي، أم كلثوم ستغني الآن، فإمّا أن تصمتوا أو أن تخرجوا جميعاً من الغرفة فوراً.”

في تلك الليلة، ماتت جدتي الكلثومية، وفى وجدانها طرب لسماع أم كلثوم وهي تغني: “عايزني أرجع زيّ زمان…قل للزمان ارجع يا زمان .”

هل كانت كلمات هذه الأغنية صدفة (وهي رائعة فات الميعاد من ألحان بليغ حمدي وكلمات مرسى جميل عزيز)؟ لا أحد طبعا يملك جوابا هذا السؤال.

في هذا البيت، الذي كانت تزوره أم كلثوم فى زمن الوحدة السورية المصرية، تربيت على صوت أم كلثوم. وكنتُ دوماً أمام الخيار الصعب فى طفولتي: إما الصمت المطبق، أو الإصغاء إلى أغانيها. كبرت، وأصبحت كلثومياً مثلها، متعصباً شديد التعصب لكوكب الشرق، سيدة كل الأزمنة التي كنت ولا أزال أعتبرها أعظم صوت عرفته البشرية فى العصر الحديث.

كانت جدتي لا تفوّت حفلة لأم كلثوم، بين مصر وسوريا ولبنان، وكانت تحرص على إقامة عشاء على شرف “الست” كلما مرّت بدمشق. وكانت طالما تحدثنا عن أول حفلة أقامتها “صاحبة العصمة” في العاصمة السورية سنة 1931، حيث جاءت من بيروت برفقة المتعهد أحمد الجاك. وقالت:

“أذكر أن قيمة التذكرة كانت ليرة رشادية ذهباً، ومن لم يملك ثمنها من المعجبين قام ببيع سجّاد منزله، والسيدات قمن برهن حليهن ومجوهراتهن لكي يحضرن أم كلثوم في حديقة المنشية بدمشق.”

تعرضت أم كلثوم يومها لحادث مزعج وكريه، عندما هاجمها مجموعة من الشباب السلفيين وطلبوا منها أن تحتشم (علما بأن أم كلثوم كانت محتشمة جدا، ليس فقط بمقياس ذلك العصر بل كل العصور، وكانت حافظة للقرآن وملتزمة دينيا وأخلاقيا).

صاح الشبان فى وجه أم كلثوم وهي تخرج من فندق أمية، وطالبوها بتغطية رأسها ووجهها. كانت فى الثالثة والثلاثين من عمرها، ولكن شخصيتها كانت دوما قوية وصلبة، فتجاهلتهم ومضت فى طريقها، فقام هؤلاء الصبية برشقها بنترات من الفضة، مما أحرق ذيل ثوبها الأخضر الجميل.

انزعجت أم كلثوم من هذه الحادثة كثيراً وقاطعت دمشق من بعدها، فسارت شائعة في الصحافة الصفراء بأنها لا تحب سوريا ولن تعود إليها أبداً. فوجدت أم كلثوم نفسها مجبرة على الرد، وخطّت رسالة إلى الشعب السوري، نُشرت فى مجلّة الحوت الرائجة يومئذ. وقد قالت أم كلثوم: “كيف لا أحب السوريين وهم الذين يقدرون الفن وهواته والعاملين على رفع رايته؟ فمن يقول أو يُشيع بأنني لا أحب سوريا فهو يفترس على شعوري حيث لا يمكن لقلبي ألا يكون مع السوريين الذين أحلوني مقاماً يحسدني عليه زملائي من الفنانين.

وقد ختمت بالقول: “اعتبروني واحدة منكم فى الروح والجسد،” ووعدت بالمجيء إلى دمشق لإحياء حفلة جديدة في الربيع… ولكنها لم تأت.

ظلّت أم كلثوم غائبة عن أهل الشّام لغاية شهر يونيو (حزيران) من سنة 1955، عند دعوتها من قبل الاتحاد النسائي السوري لإقامة حفلات على مسرع مدرسة اللايك في شارع بغداد، غنت فيه أغنية “جددت حبك ليه.” كان في استقبالها يومئذ رئيس مجلس النواب، المرحوم الدكتور ناظم القدسي والوزير عبد الباقي نظام الدين، الذي كان قد تقدم إلى جامعة الدول العربية بمقترح أن تكون زيارة أم كلثوم لكل عاصمة عربية جزءا من ميثاق العمل العربي المشترك.

وبعد حفلة مدرسة اللايك، جاءت أم كلثوم مجدداً إلى سوريا في سبتمبر (أيلول) 1957 لإحياء حفلات على خشبة مسرح معرض دمشق الدولي، غنت فيها “دليلي احتار” و”شمس الأصيل.” وضِعت مكبرات صوت في أرض المعرض لنقل صوت أم كلثوم إلى كل حيّ وزقاق من أزقة دمشق، وخلال هذه الزيارة، قلّدها رئيس الجمهورية المرحوم شكري القوتلي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة.

والزيارة الرابعة كانت في سبتمبر (أيلول) 1958 (بعد أشهر من قيام الوحدة السورية المصرية) حيث شاركت أم كلثوم في فعاليات المعرض مجددا وغنت “ذكريات” و”عودت عيني.” وبعدها كانت المقاطعة الثانية إثر وقوع انقلاب 28 أيلول 1961، الذي أطاح بجمهورية الوحدة، حيث لم ترغب أم كلثوم بإزعاج الرئيس جمال عبد الناصر يومها بزيارة دمشق في مرحلة الانفصال، على الرغم من تلقيها عدة دعوات أهلية وحكومية.

ولكن جمهورها السوري ظلّ يتبعها حيثما حلّت وكلما غنّت، حتى وفاتها في 3 فبراير (شباط) 1975، وظلّ صوتها محفورا كالنقش في ذاكرته الجماعية وذاكرة كل العرب.

***

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *