دم بقا آمين
سامي مروان مبيّض (دمشق، 5 تشرين الأول 2020)
في زمن مضى، كانت مُراسلات رئاسة غُرفة تِجارة دِمَشق تبدأ بالديباجة التالية: “إلى الجانب الأكرم والمقام الأفخم، حميد المزايا، كريم الشيم، حضرة أخونا السيّد… أفندي المُحترم.” ثم تنتهي الرسالة بعبارة “دم بقا آمين.”
هي تعني “دام بقائه آمين،” ولكن الكتّاب كانوا يختصرونها نظراً للسرعة ولتكرارها الدائم في النصوص، بحيث أنها أصبحت معروفة عند كلّ تجّار الشّام وعُملائهم العرب.
أعرف هذه “الديباجة” جيداً، لأنها موجودة في مراسلات العائلة مع غُرفة التِجارة، وبعضها يعود إلى عام 1920. كان أبي يَحترم مقام غرفة التجارة كثيراً، وهو من تجار الشام القدامى. ولا يُناقش ما يَصدر عن رئيسها قائلاً: “هيك قال الشلّاح! في كبير بالسوق وكلمته يجب أن تُحترم.”
تذكرته وتذكرت كلماته و”ديباجة التجّار” عند مشاهدة الحملة الانتخابية لمجلس غرفة تجارة دِمَشق المُقبل. عندما صَدر فرمان تأسيس الغُرفة سنة 1830، جاء فيه شرح مُفصّل عن منصب رئيسها. أشترط أن يكون من التجّار “المُعتبرين والمُستقيمين ومن أهل الخِبرة.” أُطلِق عليه لقب “شهبندر تجّار الشّام” ونُقلت إليه جميع مسؤوليات وصلاحيات “مشيخة الكارات” التي كانت سائدة منذ القِدم في مُجتمع دِمَشق التِجاري، من تدريب وتعيين وترفيع أو فصل لأي مُمارس للعَمل داخل أسواق المدينة.
عُيّن الحاج محمّد صالح صوّاف زادة رئيساً للغُرفة في يومها الأول وخَلفه في المنصب أبو مسلّم جلاب، ثم جاء حسن باشا القوتلي، عمّ الرئيس شكري القوتلي. وقد تلاهم في رئاسة الغُرفة شخصيات كبيرة مثل الحاج عارف الحلبوني والحاج مسلّم السيوفي (وهما من مؤسسي مشروع مياه عين الفيجة)، مروراً بالحاج محمّد عادل الخجا (أحد مؤسسي الشركة الخُماسية)، وصولاً إلى الحاج بدر الدين الشلّاح وابنه الدكتور راتب الشلّاح. أدرك هؤلاء الكبار مدى أهمية المدينة التي كانوا يمثلونها والتي اشتهرت بسُّمعة تُجّارها وجودة مُنتجاتهم، كما وذاع صيت أهلها وأسواقها العريقة في الهند والصين وفي المغرب العربي وكافة البلدان الأوروبية.
عُرف عن تُجّار الشّام المجازفة بثلث مالهم فقط في أي عمل تِجاري، وتخصيص الثلث الثاني لشِراء الأملاك، تكون ذخراً لهم في الأيام الصعبة، والإبقاء على الثلث الثالث “احتياط،” لا يقتربون منه مهما بلغت بهم الشدائدُ والمِحن. كانت الأمانة والصّدق من صفات تُجّار الشّام، ولم يكن أحد منهم يَحمل أي شهادة جامعية لا في التِجارة أو في الصّناعة أو الإدارة، بل تعلّموا جميعاً في أسواق دِمَشق، حيث شبّوا وشابوا.
دَخلت الغُرفة في حالة موت سريري خلال الحرب العالمية الأولى، حيث تعطّل عملها بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي ضربت البلاد السورية وأدت إلى فقدان المواد الأساسية وتوقيف المصانع الصغيرة والورش، وانقطاع الكهرباء عن المدينة وسحب عدد هائل من شباب اليد العاملة إلى الخدمة الإلزامية في الجيش التركي، وتواري الآخرين منهم عن الأنظار هرباً من موت محتوم على جبهات القتال.
حالة الغُرفة اليوم تشبه حالها في العام 1920. ومن المُفيد العودة إلى هذا التاريخ وإلى تلك الأصول لتحديد هويّة رئيسها الجديد. هل يتسوفي المُرشّح صفة “المُعتبرين ومن أهل الخِبرة؟”
هل لديه ما يكفي من صفات حميدة ليكون خلفاً لتلك الأسماء الكبيرة التي نهضت بالاقتصاد السوري وشاركت بنيل الاستقلال؟
أهل الشّام يقولون دوماً: “كل الناس خير وبركة.” وبالفعل، كل المرشحين “خير وبركة” ولكن هل يستحق أحد منهم لقب “شهبندر تجار الشّام؟”
من منهم يستحق أن تُذيّل الرسائل الموجهة إليه بعبارة: “دام بقائه آمين؟”
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!