تاج المُعلّمين…وداعاً

سامي مروان مبيّض (دمشق، 11 آذار 2019)

سوف أعترف بسر، أقوله على الملأ للمرة الأولى…

بسبب دراستي الطويلة في مدارس وجامعات غربية، كنت وحتى مطلع هذه الحرب لا أكتب بتاتاً باللغة العربية، بل أقف على أبوابها خائفاً وخجولاً وعاجزاً. في نهاية العام 2011، قررت أن أتخلص من هذا العيب، بعد أن عرفتني الصديقة هزار عم عليّ على والدها العلّامة النبيل الأستاذ تاج الدين عم عليّ، أحد أساطين اللغة العربية في سورية.

“لن تكون مهمتك سهلة أستاذي، فكيف تُعلّم رجل قواعد لغة معقدة، وهو على مشارف الأربعين؟” قبل التحدي، ووعدني أن يُطلق لساني ويكسر حاجز الخوف في داخلي، قائلاً: “خلال سنة واحدة، سوف تكتب بالعربي.” وبالفعل، بعد عام واحد، بدأ مشواري مع جريدة السفير البيروتية ثم صدر كتابي الأول باللغة العربية.

كان مشوارنا معاً عبارة عن دروس يومية ووظائف مسائية يليها تسميع صباحي، مع أحاديث جانبية لا تخلو من الشغف، عن الشعر والسياسة والتاريخ. عرفت أن هذا المناضل خرج من قرية الجاعونة في فلسطين حافياً، وأنه وصل إلى دمشق ماشياً على قدميه، باحثاً عن حياة جديدة ومسكن آمن، دون أنّ يعرف أن المدينة ستفتح له أبوابها ثم بيوتها، لكي يدرّس أبناء كبرى عائلاتها.

لم يكن الأستاذ تاج مجرد مُعلم، بل قبيلة كاملة من العلماء والشعراء والحُكماء. كان يفتخر بأنه يحفظ “مليون بيت،” وكنت طالما أراه في داره، يراجع أبياتاً من شعر المتنبي وجرير والفرزدق، وغيرهم من الشعراء أصبحوا من أصدقائه، لشدة إعجابه بهم وكثرة ما عاش معهم. عاصر نزار قباني وأحبه كثيراً، وكان الإعجاب متبادلاً لدرجة أن شاعر الياسمين طلب منه أن يعلم أكبر أبنائه “الأمير الدمشقي” توفيق أصول البلاغة والنحو.

كان “سوريّ قوميّ الهوى” متبنياً فكر أنطون سعادة…نبيل الأخلاق، معجباً بسلوك خالد العظم…ثائراً، مؤمناً بنضال جورج حبش. بل أنه بنظري كان أهم وأعظم من كل هؤلاء، فقد أفاد سورية وفلسطين أكثر منهم جميعاً، كونه علّم أجيالاً بصمت، بعيداً عن الأضواء، لا ينتظر شكراً من أحد، أو منصباً.

ذات يوم، سمعته يكلم أحد أولاده الذكور: “مافيني أترك الشّام يا ابني، عندي طلاب كثير والتزامات تجاههم…وين بدكم ياني روح؟ بعدين، كيف بدي أترك الشّام، ما هي حمتنا وقت كانت مرتاحة، كيف فينا نتركها وهي بأمس الحاجة النا؟”

احتراماً لمسؤولياته رفض عروضاً مغرية قدمت له في الخليج العربي، وأصر على البقاء في دمشق، ماشياً على قدميه كما كان يفعل منذ سبعين سنة، متنقلاً بين مدارسها ومعاهدها، الحكومية والخاصة، متحدياً ظروف الحرب، من انقطاع الكهرباء وتساقط قذائف الهاون.

“كنت مارق جنب السيارة يوم انفجرت العبوة بالميدان…كنت رح موت!”

“أستاذي الكبير، أرجوك…عد إلى بيتك، فالنيران في كل مكان.”

“أنا موشي دايان ما قدر يوقفني عن العمل، بدك الهاون يوقفني؟”

صحيح، فشل “موشي دايان” في ذلك، وفشلت كل الظروف الطاحنة التي مرت على هذه الأمة، حتى يوم أمس، عندما ترجل الفارس تاج الدين عم عليّ عن صهوة جواده، مستسلماً للموت. في آخر لقاء بيننا جرى قبل أسبوعين، سألني عن موضوعين كانا قد أقلقاه في ساعاته الأخيرة: عن فلسطين والصهاينة، وعن دمشق والمازوت.

كل من عرف هذا الرجل النبيل سيبكيه بحرقة قلب، وكل من تعلّم منه حرفاً أو حظي بلقياه، سوف يترحم عليه طويلاً، فقد أعطى السوريين كثيراً ولم يأخذ بالمقابل سوى شرف الانتماء إلى هذا البلد.

***