ادفنوا السلاح والنراجيل معاً
سامي مروان مبيّض – صحيفة الوطن (دمشق، 14 تشرين الأول 2018)
سوف أخرج اليوم عن المواضيع المألوفة في مقالاتي وأتطرق لقضية بالغة الأهمية، تكاد تكون أخطر من السلاح الداشر في طول البلاد وعرضها، وأخطر من الغلاء والفساد، وهي الانفلات الكامل في موضوع التدخين وتحديداً، ما قد تحول إلى وباء حقيقي في مجتمعنا وهو “لعنة النراجيل،” التي وصلت إلى حد الوقاحة في مدينة دمشق.
بداية ولكيلا يتهمني أحد بالمزاودة، أنا كنت وما زلت من مُدخني المقاهي، حيث يروق لي أن أكتب منذ أن كنت طالباً جامعياً. هو أمر مُخجل وعادة كريهة يجب التخلي عنها. ومع ذلك، أقول: إني أمنع التدخين منعاً باتاً في منزلي، وأرفض أن تجلس طفلتي الصغيرة بين المدخنين، كما أرفض أن أدخن أمامها، خوفاً عليها من أن تألف هذا المنظر الكريه.
جميع مطاعم دمشق ومقاهيها لم تعد تطاق بسبب الانتشار الرهيب لهذه الظاهرة، التي باتت مقبولة مشرعة اجتماعياً مع أنها لم تكن يوماً من عاداتنا. لا يكاد يوجد مطعم أو مقهى في دمشق، كبيراً كان أم صغيراً، مفتوحاً كان أم مغلقاً، إلا وفيه خدمة «النرجيلة»، تُقدم لكل الناس، حتى للأطفال واليافعين. أذكر جيداً أنه في زمن ليس بعيداً كان لا أحد يجرؤ على إشعال “سيكارة” أو طلب نرجيلة أمام من هو أكبر منه سناً أو مقاماً. كانت النراجيل لا تقدم إلا في المقاهي الشعبية ولا مطعم محترماً في دمشق فيه هذا “السُمّ.” ولكن من يدخلها اليوم يرى سحابة دخان ثقيلة ومنخفضة تحدق فوق رؤوس الناس، التي لم نعرفها في الماضي إلا في الخمارات والمرابع الليلية.
أرصفة ومقاهٍ
أرصفة الطرقات في دمشق باتت محجوزة لنراجيل المقاهي لا للبشر، وكذلك أفخم مطاعم دمشق، التي تقدم الأطباق الفرنسية والإيطالية واليابانية مع “نفس أركيلة.” في معظم حدائق دمشق هناك “متعهد نراجيل،” يقدم نرجيلة ملوثة للناس، لا تتطابق مع أي معايير صحية، ولا أحد في المسؤولين يحاسبه على ذلك.
هذه الحدائق ملك لأطفال سورية، وباتت اليوم بؤراً للفساد لا تدخلها العائلات إلا بسبب القلة والفقر وعدم وجود أي بدائل أو متنفس آخر. في أحد أفخم مشافي دمشق، رأيت بأم عيني زوار أحد المرضى يدخنون بحرية مطلقة أمام الأطباء المناوبين والممرضات. لو كنت مسؤولاً لأعدمتهم جميعاً في ساحة المرجة.
في بعض الدراسات الغربية عن هذا الموضوع، تأتي عبارة: “الإقلاع عن التدخين صعب جداً، لأن النراجيل أصبحت جزءاً مهماً من الحياة الثقافية والاجتماعية في السورية.” يا للعار يا سورية، يا للعار، أن تكون النرجيلة قد باتت جزءاً من ثقافتك وتراثك، تضع بنفس المرتبة مع شعر نزار قباني، وطرب صباح فخري، أو حتى مع المكدوس والفتة وغيرها من المأكولات السورية. كيف وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل اليوم، ونحن الذين منعنا الإعلان عن التبغ منذ عام 1996، قبل الإمارات العربية المتحدة بثلاث عشرة سنة، وقبل دول مثل جنوب إفريقيا والصين والهند.
التدخين خطر على البلدان العربية
الخطر يهدد البلدان العربية كافة طبعاً وليس فقط سورية، ففي مصر مثلاً، يتم تصنيع 84 مليار سيجارة سنوياً، وصناعة التبع تدر 2.4 مليار دولار على الخزينة المصرية، أي إنها ثاني مصدر دخل بعد عائدات قناة السويس، وبالتأكيد فإن صناعة التبغ في سورية وتجارته أربح بكثير من عائدات قلعة حلب ومتحف تدمر وقصر العظم مجتمعين.
لا إحصاء دقيقاً لعدد المدخنين في سورية اليوم، ولكن قبل الحرب قدر بثلاثة ملايين شخص، يستهلكون 30 مليون سيجارة يومياً، ويصرفون 26 مليار ليرة سورية في العام الواحد على التبغ. أكاد أجزم أن الرقم، لو صح، قد تضاعف أضعافاً في السنوات القليلة الماضية ليقترب من 90 بالمئة اليوم. هناك سبعة ملايين شخص يموتون سنوياً حول العالم من أضرار التدخين، و900 ألف مما يعرف بالتدخين السلبي، ولا نعرف كم من هؤلاء من حملة الجنسية السورية.
وزارة الصحة غائبة كلياً عن هذا الأمر، بكل أسف، وكذلك محافظة دمشق، ضاربين بعرض الحائط مرسوماً رئاسياً صدر قبل الحرب، طُبق لأيام معدودة فقط، منع بموجبه التدخين في الأماكن المغلقة وفي الدوائر الحكومية. تم غض الطرف عن هذا المرسوم يومها لأنه أضر كثيراً بمصلحة أصحاب المقاهي والمطاعم، فمن أجل هؤلاء تم إعدام مجتمع بأكمله، الذي بات الصغير فيه اليوم يُدخن قبل الكبير.
نحو إيجاد حلول
الحلول المنطقية موجودة ومنها:
١– رفع قيمة التبغ كما جرى في أوروبا.
٢– زيادة الإعلانات الترويجية المحذرة من مضار التدخين، والطلب من الكنائس والجوامع التدخل لمصلحة الحملة.
٣– منع التدخين في المطاعم المغلقة.
٤– تطبيق قانون صارم يفرض على أصحاب تلك المقاهي عدم تقديم التبغ لمن دون السن القانوني، وحبس كل من يخالف القانون، مهما علا شأنه.
٥– تخصيص أماكن محددة للمدخنين من سكان هذا البلد، في المقاهي والمطاعم والحدائق، أو بالأصح، أمكنة مخصصة لغير المدخنين، بحكم أنهم باتوا اليوم هم الأقلية.
٦– منع إدخال الأطفال والحوامل إلى قسم المدخنين.
٧– تحديد وقت معين من المساء لتقديم النراجيل، قبله تكون المطاعم مخصصة للعائلات والأطفال.
يجب أن تكون الحلول واقعية وتدريجية وعادلة في آن واحد، تأخذ في عين الاعتبار أن التبغ مصدر مهم من دخل الخزينة، لا يمكن الاستغناء عنه في هذه الظروف تحديدا. بنفس الوقت علينا أن نتعامل مع أنفسنا وأولادنا بقليل من الاحترام والوعي، ونفكر في أي مستقبل نؤسس لهم في هذا البلد.
يجب أن تكون هناك خطة تدريجية لدفن النراجيل، تترافق مع مخطط مدروس لدفن السلاح، فلقد فتك كلاهما بأولادنا وشبابنا فترة طويلة جداً، وحان الوقت لهذا الموت المجاني أن يتوقف، أو على الأقل، أن يتراجع تدريجياً.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!