أين ذهب أرشيف عبد الناصر السوري؟
سامي مروان مبيّض – صحيفة الأهرام (القاهرة 27 كانون الثاني 2018)
لم يكن المشير عبد الحكيم عامر يُدرك أن 28 أيلول 1961 سيكون آخر يوم له في سوريا، وأن انقلاباً عسكرياً سيطيح به وبجمهورية الوحدة التي شارك بصنعها وبحكمها مع صديقه الرئيس جمال عبد الناصر، وتحمل الجزء الأكبر من أوزار فشلها. غادر دمشق في الساعة الخامسة والنصف من ذلك المساء، ولم يأخذ معه إلا ممتلكاته الشخصية، تاركاً الكثير من الأوراق والمراسلات والمستندات الرسمية، والتي عثر لاحقاً على القليل المبعثر منها في منزله بحٍيّ المالكي وفى مكتبه في الأركان العامة بساحة الأمويين، وفى القصر الجمهوري في شارع أبو رمانة، المعروف بقصر الضيافة، والذي كان الرئيس عبد الناصر يقيم به عند زيارته سوريا، والذي أعلن من شرفته عن تأسيس الوحدة عام 1958.
جميع تلك الأمكنة خالية تماماً اليوم من أي وثيقة تاريخية تتعلق بزمن الوحدة، والقائمون عليها لا يعرفون مصير تلك الأوراق. هل أتلفت في عتمة الانقلابات العسكرية التي عصفت بسوريا منذ ذلك التاريخ أم أنها فُقدت في مستودعات الدولة؟ أو هل تم نقلها إلى مكان آمن، ضاع عنوانه مع مرور الزمن؟
الكثير من تلك الوثائق حُرقت أو سُرقت في الأيام الأولى لانقلاب عام 1961، وتمّ تهريب الأوراق العسكرية المهمة إلى مصر مع شخصيات عسكرية سورية قررت عدم البقاء والعيش بدمشق في زمن الانفصال، كقائد الجيش الأول الفريق جمال فيصل الذي غادر سوريا على متن طائرة المشير، ووزير الرئاسة أيام الوحدة جادو عز الدين، المقيم في القاهرة منذ ذلك التاريخ، والمقدم عبد الحميد السراج، نائب الرئيس عبد الناصر الذي انتقل إلى مصر بعد هروبه من سجن المزة العسكري، وعاش فيها حتى وفاته في أيلول 2013.
جميع الوزراء العسكريين ذهبوا فوراً إلى مصر، جمال الصوفي وطعمة العود الله وأحمد حنيدي وأكرم الديري، ومعهم العقيد محمد الإستنبولي رئيس شعبة المخابرات الذي رُحل ترحيلاً، ولا نعرف تماماً ما هي الوثائق والأوراق التي أخرجت معهم.
صدر يومها قرار رسمي من وزير الإعلام مصطفى البارودي بمنع عرض خطابات الرئيس المصري المصورة على شاشات التليفزيون السوري، وبنقل أشرطتها فوراً إلى المستودعات للحفظ، ليتم مسحها بعد أيام قليلة وتسجيل برامج منوعة عليها، بحجة أن الجهات المصرية قطعت عن السوريين أشرطة التسجيل في الساعات الأولى من الانفصال.
مُسحت جميع التسجيلات الصوتية المتعلقة بالوحدة من إذاعة دمشق، وضم الإتلاف خطابات الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي، صانع الوحدة مع عبد الناصر وحامل لقب المواطن العربي الأول. ضاع التسجيل الأصلي لوصول عبد الناصر إلى دمشق في شباط 1958، والذي أظهر الحفاوة الرهيبة التي استُقبل بها «أبو خالد» في عاصمة الأمويين، ولم يبق منه إلا بعض الثواني المسجلة فى المؤسسة العامة للسينما حتى اليوم.
وأخيراً تم تمزيق كل الصور وتحطيم التماثيل، واختفت كل الأوراق الرسمية التي تحمل توقيع جمال عبد الناصر، من مراسيم وتعيينات ونقل ضباط وتسريح موظفين. بعد سنوات قليلة ظهر بعضها للبيع المتفرق في محال “الأنتيكا” خلف الجامع الأموي الكبير في مدينة دمشق القديمة.
فى مجلس النواب السوري، حُزمت محاضر الجلسات القديمة، ومنها الجلسة التاريخية لإقرار الوحدة، وتلك الجلسة المشتركة التي تمت بحضور الرئيس أنور السادات عندما كان رئيساً لمجلس الأمة عام 1957، وقبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب الحالية تم نقلها إلى مستودع في غوطة دمشق، قضت عليه نيران المعارك منذ نحو أربع سنوات.
الموضوع خطير ويستحق المتابعة، ليس فقط فيما يتعلق بالوحدة بل بكل التاريخ المشترك بين سوريا ومصر. أين هي مراسلات السوريين مع مصطفى النحاس باشا؟ أين هي مراسلات تأسيس جامعة الدول العربية أو جميع الأوراق والخرائط العسكرية والمراسلات السرية المتعلقة بالعمل المشترك بين الجيشين السوري والمصري خلال حرب فلسطين عام 1948؟
أين محضر لقاء حسنى الزعيم، صانع الانقلاب السوري الأول، مع الملك فاروق في نيسان 1949؟ ماذا عن علاقة حكام سوريا بالضباط الأحرار بعد ثورة 1952؟
ماذا عن المراسلات الأمنية المتعلقة بنشاط الإخوان المسلمين في سوريا ومصر إثر محاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر في الإسكندرية أو الكم الهائل من الوثائق المتعلقة بتأميم القناة والعدوان الثلاثي؟
الجواب، ببساطة، أنها لم تعد موجودة في سوريا. ضاعت أو أتلفت أو تلفت، غير مهم. المهم أنها غير موجودة اليوم في دمشق ولا نعرف مصيرها في مصر. معظمها قد ضاع نتيجة الإهمال والفوضى المترافقة مع الانقلابات العسكرية المتتالية في دمشق، وجاءت الحرب الأخيرة لتحصد ما تبقى من الأرشيف السوري، ومن المصادفة أن يكون ذلك في نفس المدن السورية التي زارها عبد الناصر والتي تعرضت لخراب كبير في السنوات الماضية، مثل حمص ودير الزور وحلب والحسكة والقامشلي ودرعا.
يوجد بعض الأوراق المتبقية في المكاتب الخاصة للقلة القليلة من المسئولين الأحياء المقيمين في دمشق، كأمر سلاح الطيران في زمن الوحدة اللواء وديع مقعبري، والقاضي عبد الله الخاني، أمين عام الرئاسة السورية في الخمسينيات الذي شارك بمفاوضات الوحدة وعين سفيراً في زمن الرئيس عبد الناصر، وأحمد عبد الكريم، الوزير المركزي للشئون البلدية والقروية في الجمهورية العربية المتحدة، إضافة طبعاً لما تبقى من ضباط الانفصال، وعلى رأسهم قائد المجموعة المقدم عبد الكريم النحلاوي، المقيم خارج البلاد منذ عام 1963. بالرغم من الآراء المتضاربة حول تجربة الوحدة، التي تأتى ذكراها الستون بعد أسابيع قليلة، يجب الحفاظ على ما أمكن من أوراقها وأرشيفها، بتعاون مشترك بين سوريا ومصر، والأخذ بشكل علمي بشهادة من تبقى شاهداً حياً عنها، قبل فوات الأوان.
***