اجتماع الملك عبد العزيز – روزفلت… الأول من نوعه وأسس لتحالف متين
سامي مروان مبيّض (المجلة، 13 نيسان 2024)
في الرابع عشر من شهر فبراير/شباط 1945، عُقد اجتماع تاريخي على متن مدمرة أميركية في البحيرات المرة بقناة السويس، جمع بين الملك عبد العزيز آل سعود، والرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت. كان الأول من نوعه بين عاهل سعودي ورئيس أميركي، أسس لتحالف متين عاش أطول منهما بكثير، وهو اليوم يعود إلى الأذهان مع تنامي الكلام عن قرب التوصل إلى اتفاق دفاع مشترك بين البلدين، بعد توقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
الملك عبد العزيز لم يكن قد غادر أرض الحجاز في حياته ولم يكن قد ركب البحر من قبل، وكان روزفلت يُعاني من تراجع حاد في صحته نتيجة شلل أصابه وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، أقعده ولكنه لم يتمكن من النيل من عزيمته وإضعافها. نظراً لضرورات الحرب العالمية الثانية المشتعلة من سنة 1939، انتُخب رئيساً للولايات المتحدة أربع دورات متتالية، وكانت ولايته الرابعة والأخيرة قد انطلقت في مطلع عام 1945. وعلى الرغم من الاعتلال في صحته، أصر روزفلت على عقد الاجتماع على الرغم من خطورة لقاء الملك السعودي في مرمى نيران الطائرات الألمانية الموجودة بكثافة في الأجواء المصرية.
كان النفط حديث العهد في السعودية ولم يكن كافياً لتأمين مستلزمات المملكة، اكتُشف قبل سنتين من دخول روزفلت البيت الأبيض، يوم أبرمت المملكة عقداً استراتيجياً مع شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا، وقع في قصر خزام التاريخي بمدينة جده، وبدأت عمليات الاستخراج سنة 1938. حاولت دول المحور مراراً ضرب مصالح النفط الأميركية في المنطقة العربية وخشي روزفلت أن يكون حلفاؤه الإنكليز يريدون السيطرة على نفط السعودية، كما فعلوا من قبل في نفط العراق وإيران والكويت. أكد له الملك عبد العزيز أن شيئاً من ذلك لن يحدث طالما هو على قيد الحياة، وقال إن بلاده هي الوحيدة بين الدول العربية التي كانت تتمتع باستقلال كامل، وأنه ينوي الحفاظ على استقلالها.
الزعيم السوفياتي جوزف ستالين والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل أثناء قمة يالطا في 4 فبراير 1945قبل الاجتماع بقرابة السنتين أرسل الملك عبد العزيز اثنين من أبنائه للقاء روزفلت في واشنطن، الأمير فيصل والأمير خالد (كلاهما أصبح ملكا في المستقبل)، وعندما سمع أن الرئيس الأميركي كان يهوى جمع الطوابع، أهداه مجموعة طوابع سعودية نادرة.
في الطريق إلى قناة السويس
كانت السفينة الأميركية التي جاءت بالملك من جدة USS Murphy محملة بطعام يكفي ركابها 60 يوماً، لكن الملك عبد العزيز رفض تناوله لكونه مثلجاً، وجلب معه خرافاً لذبحها على الطريقة الإسلامية الحلال، لتؤكل فورا. أقام خيمة عربية على متن السفينة، وكان يؤم المصلين بنفسه في أوقات الصلاة الخمس، كما جاء في شهادة باري مكارثي، أحد العاملين الأميركيين على متن السفينة في مقال عن الرحلة نُشر في مجلة LIFE الأميركية يوم 19 مارس/آذار 1945. قدم له الملك عبد العزيز وكل زملائه، خمسة عشر جنيهاً إسترلينياً إكراماً لحسن الضيافة، وعشرة جنيهات لكل بحار، وفي المقابل، أهداه ربان السفينة رشاشين حربيين كان قد أعجب بهما الملك السعودي، مع مناظير بحرية.
تبادل الهدايا
قطعت USS Murphy مسافة 1200 كيلومتراً في البحر، وعندما وصلت إلى سفينة روزفلت USS Quincy ونزل الملك لمقابلته، رآه مقعداً على كرسيه المتحرك. كسر روزفلت جمود البروتوكول بقوله: “أنت أكثر حظاً مني لأنك تستطيع المشي على رجليك” فأجابه الملك: “لا يا صديقي، أنت الأكثر حظاً، كرسيك المتحرك سيأخذك إلى أي مكان تريد الذهاب إليه وأنت تعلم أنك ستصل. أما أنا فقد أصبحت ساقي أقل موثوقية وتزداد ضعفاً كل يوم.”
تفاصيل هذا الحوار الودي نقله وليام أدي، وزير أميركا المفوض في السعودية، في كتاب صغير من 47 صفحة بعنوان FDF meets Ibn Saud نُشر في نيويورك سنة 1954. وكتب الوزير الأميركي أن الملك عبد العزيز كان “من أعظم رجالات القرن العشرين،” وأن روزفلت قدم له كرسياً متحركاً مطابقاً لكرسيه “هدية من البيت الأبيض،” وتعاطف كثيراً عندما علم أن آلام ساقي الملك كانت ناتجة عن حروبه المتتالية لتوحيد القبائل العربية وأراضي الحجاز، وليس عن مرض مزمن أو بسبب الشيخوخة. وفي المقابل، قدم له الملك أحزمة مصنوعة من الحرير الطبيعي، مع خنجر مرصع بالمجوهرات وعطور لزوجته إليانور، وقطعة من العنبر الصلب جاءت معه من قاع البحر الأحمر.
تفاهمات استراتيجية
استمر اللقاء خمس ساعات متواصلة، تخلله غداء عمل مُبكر امتنع فيه روزفلت عن التدخين وشرب الكحول احتراماً لضيفه الكبير. حضر الغداء أبناء الملك عبد العزيز وأحد ضباط البحرية الأميركية، ومعه شارلز بوهلين، الخبير في الشؤون السوفياتية الذي كان قد ترجم لروزفلت أثناء لقائه بجوزيف ستالين في مؤتمر يالطا قبل أيام.
روزفلت للملك عبد العزيز: أنت أكثر حظا مني لأنك تستطيع المشي على رجليك
في المحادثات، طلب الملك عبد العزيز صداقة أميركا وعبر عن إيمانه المطلق بقرب انتصارها في الحرب. وافق روزفلت على دعم السعودية وتزويدها بخبرات عسكرية أميركية لبناء جيشها الوليد، مقابل ضمانات أمن النفط في صحراء الحجاز وضمان عدم استغلاله، لا من قبل السوفيات ولا من النازيين والفاشيين.
القضية الفلسطينية
لعل أهم من جاء في الاجتماع كان حول القضية الفلسطينية، عندما أثار روزفلت موضوع حق يهود أوروبا في الهجرة إلى فلسطين، تمهيدا لإقامة وطن قومي لهم بموجب وعد بلفور الشهير الصادر عن بريطانيا سنة 1917. كان روزفلت مؤمناً بالقضية الصهيونية، وقد اعتمد كثيراً على الناخبين اليهود في حملته الانتخابية الأخيرة سنة 1944. قال للملك عبد العزيز إنه قطع عهداً على نفسه بمساعدتهم، مستفسراً عن رأيه في هذا الأمر. جاء جواب الملك السعودي حازماً ومباشراً: “أعطهم وأحفادهم من بعدهم أفضل الأراضي والمنازل في ألمانيا… ألمانيا التي اضطهدتهم.”
أجابه روزفلت أن اليهود لا يرغبون البقاء في ألمانيا، خوفاً من اضطهادهم فيها مرة أخرى: “لديهم رغبة عاطفية بأن يقيموا في فلسطين.” أجابه الملك أن العرب واليهود “لا يمكنهم أن يعملوا معاً، لا في فلسطين ولا في غيرها،” بسبب تاريخ طويل من الصراع والدم والانعدام الكامل للثقة بينهما.
في رأيي أن اليهود يجب أن يعودوا إلى الأراضي التي طردوا منها. اليهود الذين دمرت منازلهم يجب أن يحصلوا على الإقامة في دول المحور التي اضطهدتهم. ليس لدي شك في أنهم لا يثقون بالألمان، ولكن من الموكد أيضاً أن الحلفاء سيدمرون القوة النازية إلى الأبد. وفي انتصارهم سيكونون أقوياء بما يكفي لحماية ضحايا النازية. وإذا لم يكن بوسع الحلفاء السيطرة التامة على ألمانيا، فلماذا خضتم هذه الحرب المكلفة؟ لا أتوقع أنكم ستتركون العدو في وضع يسمح له بالرد على الهزيمة.
استرسل الملك في شرحه:
اجعلوا الأعداء يدفعون الثمن. هكذا نحن العرب نخوض الحروب. على المجرم أن يتحمل أعباء الإعمار، وليس الأبرياء. ما الضرر الذي ألحقه العرب بيهود أوروبا؟ دع الألمان يدفعون الثمن.
في نهاية الاجتماع، وافق روزفلت على أن لا يتخذ أي قرار مصيري بشأن فلسطين “إلا بالتشاور الكامل مع العرب،” وبالنسبة للملك عبد العزيز كان هذا التعهد أقوى من أي كلام مكتوب على الورق، لأن الرجال الحقيقيين أمثاله يؤخذون على كلامهم وتعهداتهم وشرفهم. ولكن روزفلت لم يكتف بالتعهد الشفهي وكتب للملك خطياً في 5 أبريل/نيسان 1945، قبل أسبوعين من وفاته، وقال: “يسعدني أن أجدد لجلالتكم التأكيدات التي تلقيتموها من قبل فيما يتعلق بقضية فلسطين، وأن أبلغكم أن سياسة هذه الحكومة لم تتغير”.
الملك عبد العزيز للرئيس روزفلت: أعط اليهود وأحفادهم من بعدهم أفضل الأراضي والمنازل في ألمانيا… ألمانيا التي اضطهدتهم
لو عاش روزفلت أطول لكان التزم بعهده أمام الملك السعودي، ولكن وفاته في 12 أبريل 1945 عطلت التفاهم، وجاء خليفته الرئيس هاري ترومان لينكث بالعهد ويصوت لصالح قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947، دون العودة إلى الملك عبد العزيز أو استشارته. الأميركيون إذن هم من أخلوا باتفاق عبد العزيز – روزفلت، وليس السعودية قط، ولا روزفلت، وظلت المملكة العربية السعودية وفية للعهد، لتضع نفسها في مواجهة النازية والشيوعية من بعدها، وصولاً إلى دورها المحوري في السنوات الأخيرة كحليف صلب ضد الإرهاب والتطرف.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!