100 عام على تأسيس جامعة دمشق

سامي مروان مبيّض (المجلة، 13 حزيران 2023)

 

قبل عشرين عاماً من تولي صدّام حسين رئاسة العراق، تورط في محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم عام 1959. وحين أخفقت المحاولة، شقّ طريقه هارباً إلى سورية، وحاول الالتحاق بكلية الحقوق في جامعة دمشق. نظر إليه رئيس الجامعة الدكتور أحمد السمّان ورفضه بلطف، وبعد مراجعة سجل صدام الأكاديمي الرديء ناصحاً إياه أن يبحث عن مكان آخر يتابع فيه التعليم العالي. صرخ صدام غاضباً: “لكنني من جماعة الرئيس جمال عبد الناصر،” وكانت سورية يومها جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة مع مصر. ابتسم السمّان بأدب، وأجاب: “إذن دعه يسجلك في جامعة القاهرة إن شاء. هذه جامعة دمشق وتاريخنا يمنعنا من قبول أي شخص لا يرقى إلى معاييرنا.”

كانت الجامعة تبلغ من العمر 37 عاماً، وكان أحمد السمّان يعلم أنها الأفضل في الوطن العربي والوحيدة التي ندرس موادها كاملة باللغة العربية. أما اليوم وبعد أن مضى على تأسيسها 100 سنة (وهي في الواقع أقدم من ذلك عهدا بعشرين عاماً)، تعود “المجلة” إلى تاريخها وسجلها الحافل، منذ بدايتها ككلية للطب في عهد السلطان عبد الحميد الثاني عام 1903.

كلية الطب في دمشق

كان قرار السلطان بإنشاء مدرسة طبية من الدرجة الأولى في دمشق نتيجة مباشرة لإعجابه بالمدينة، التي أطلق عليها العثمانيون اسم “شام شريف،” وكان مدركاً مدى ضرورة دعم كلية الطب الحكومية في إسطنبول، لتحدي الجامعتين الخاصتين في بيروت: الجامعة اليسوعية، والكلية السورية البروتستانتية (التي عُرفت لاحقاً باسم الجامعة الأميركية في بيروت).

كانت الدراسة في أي من هذه الجامعات الثلاث مكلفة بالنسبة إلى السوريين ولم تكن تحظى بجاذبية لدى المسلمين المحافظين، الذين كانوا يشعرون بالاستياء من تلقيهم التعليم على أيدي رجال دين مسيحيين. وكان يجب على الطلاب القادمين من دمشق الإقامة في مساكن الطلبة أثناء وجودهم إما في بيروت أو في إسطنبول؛ لذلك كانت فكرة إنشاء معهد في دمشق مناسبة حيث، حيث إنه سيريح السوريين من مصاعب السفر وكلفته.

هذا العام، يكون قد مضى على إنشاء جامعة دمشق 100 سنة، على الرغم من أنها في الواقع أقدم من ذلك عهدا بعشرين عاماً، إذ تأسست أول مرة ككلية للطب في عهد السلطان عبد الحميد الثاني عام 1903

 

 

كانت تنتاب السلطان عبد الحميد ومنذ وصوله إلى الحكم عام 1876، حالة من الشك الكبير في نشاط الدبلوماسيون والمنتشرون في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، والذين كانوا يسعون إلى تفجير دولته من الداخل – حسب اعتقاده – وكان يكره المدارس الأجنبية التي انتشرت في أنحاء السلطنة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي ولاية سورية، كانت هناك ثماني مدارس بابوية، واثنتا عشرة مدرسة بريطانية، وسبع مدارس هولندية. بالإضافة إلى عشرون مؤسسة أميركية وأربعين مؤسسة روسية. جميعها، بالنسبة للسلطان، كانت للتجسس عليه وبث الأفكار المناهضة للدولة. للسيطرة على نفوذها – كما كان يعتقد أو يأمل – قرر إنشاء مؤسسة تعليمية عثمانية في دمشق، يمكنها أن تتحدى جميع المدارس التبشيرية الأجنبية المنتشرة في أرجاء الإمبراطورية.

أصدر السلطان عبد الحميد فرماناً بإنشاء معهدا الطب العثماني بدمشق في 27 سبتمبر/أيلول 1901، يقدم شهادتين في علم الأحياء والصيدلة مجاناً لجميع الطلاب من رعايا الدولة العثمانية. اعتمدت اللغة التركية في المعهد، وكان إتقان اللغة الفرنسية محبذاً، لكونها لغة الطب في الجامعات العالمية. حددت دراسة الصيدلة بثلاث سنوات، ودراسة الطب بست سنوات، وحُددت موازنة المعهد بـ1000 جنيه، أي ما يعادل 230 ألف فرنك فرنسي. لكن المسؤولين في وزارة المالية العثمانية حذّروا من أنها لا تملك ما يكفي من المال لمسعى السلطان، فقام الأخير بفرض ضريبة على المسالخ لجمع الأموال المطلوبة لمعهد دمشق الطبي.

افتُتح المعهد في القسم الجنوبي من المستشفى الحميدي الكبير في حي البرامكة بدمشق، الذي أصبح بعد سنوات مستشفى الجامعة السورية، وكان من المقرر أن يتم الافتتاح في الذكرى السابعة والعشرين لتتويج السلطان، في الأول من سبتمبر/أيلول 1903. وقد أجبر المعهد على إقامة مؤقتة في قصر في محلة الصالحية، تعود ملكيته إلى آل العظم، لعدم جهوزية المقر الدائم في اليوم المحدد للافتتاح. وصلت الكهرباء إلى دمشق في فبراير/شباط 1907. وكان أول مبنى أضيء هو الجامع الأموي، تلته السرايا الكبيرة في ساحة المرجة ومدرسة الطب.

من التركية العثمانية إلى العربية

في يوليو/تموز 1908، وقع انقلاب في إسطنبول، حجّم سلطات السلطان إلى حدٍّ كبير قبل إطاحته بالكامل في أبريل/نيسان 1909. وفي غضون أسابيع، استُدعي معظم الأطباء العثمانيين العاملين في كلية الطب إلى إسطنبول الأمر الذي أجبر العثمانيين على البدء في توظيف سوريين محليين للتدريس بدلا منهم. وبدأوا في تدريس مناهجهم باللغة العربية.

ظل معهد الطب العثماني يعمل لمدة خمسة عشر عاما، من 1903 إلى 1918، لكنه أُغلق لفترة وجيزة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم أُغلق مرة أخرى عندما غادرت القوات العثمانية المدينة في 26 سبتمبر/أيلول 1918. وتمكّن المعهد خلال هذه الفترة مع مرور الوقت، وعلى الرغم من كل الصعاب التي واجهته، من تخريج ما مجموعه 240 طبيبا و289 صيدلانيا.

 

كانت لغة التدريس هي اللغة التركية، ومع ذلك كان إتقان اللغة الفرنسية على نحو صحيح أمرا لا بد منه، لأن هذه كانت لغة الطب

 

 

انتقل المعهد عام 1913 إلى مقره الحالي في البرامكة وأُضيفت إليه مدرسة للحقوق، أنشئت أولا في بيروت. وشكلت المدرستان نواة الجامعة السورية التي أُنشئت بعد عشر سنوات. أدى اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى انخفاض كبير في عدد الطلاب الملتحقين بمدرسة الحقوق في بيروت، إلى درجة أن ثلاثة طلاب فقط سجلوا أنفسهم في كلية الحقوق في أحد الأعوام، ما  حمل السلطات العثمانية على نقله من بيروت إلى دمشق عام 1914، ومنحه مقرا مؤقتا في مبنى مركز المعلمين القديم الذي كان يقع على ضفاف نهر بردى، غير بعيد جدا عن كلية الطب.

تم إغلاق المدرستين خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى. وعندما انتهى الحكم العثماني عام 1918، قدم الطلاب السوريون التماساً إلى حاكم سوريا الجديد، الأمير فيصل بن الحسين، طالبين منه إعادة فتحهما. كان ثمانون منهم على وشك التخرج عندما أغلقت المدارس مع الإخلاء العثماني في سبتمبر/أيلول 1918. وبالفعل، أعيد افتتاح مدرسة الطب في 23 يناير/كانون الثاني 1919، فيما لم تبدأ كلية الحقوق التدريس مرة أخرى حتى 25 سبتمبر/أيلول 1919. وعين الأمير فيصل لجنة من ستة أعضاء لإعادة فتح المؤسستين، وإعادة تسميتهما بـ”معهد الطب العربي”، و”معهد الحكم العربي”. وكلفت اللجنة أيضا تعريب المناهج وترجمة كل شيء من التركية العثمانية إلى العربية.

وعُيّن الدكتور رضا سعيد، طبيب العيون الذي ترأس مستشفى الحميدية خلال الحرب العظمى، عميدا لكلية الطب وأصبح الرئيس المؤسس للجامعة السورية عام 1923. وتحت رئاسته حصلت الجامعة على قاعة المحاضرات الكبرى والمكتبة والمطبعة التي نشرت الكتب الأكاديمية ودورية كلية الطب (المجلة الطبية).

 

انتقل المعهد عام 1913 إلى مقره الحالي في البرامكة وأُضيفت إليه مدرسة للحقوق، أنشئت أولا في بيروت. وشكلت المدرستان نواة الجامعة السورية التي أُنشئت بعد عشر سنوات

 

 

في عام 1928، خسرت الجامعة استقلاليتها وصارت تتبع لوزارة المعارف، ليتم نقلها إلى وزارة التعليم العالي بعد تأسيسها في أوائل السبعينات. وخلال العام الدراسي 1930-1931، التحق 81 طالباً بالجامعة السورية، بينهم سبع فتيات، كانت إحداهن – الدكتورة لوريس ماهر – أول امرأة تتخرّج في كلية الطب في يونيو/حزيران 1930. بأمر رئيس الدولة صبحي بركات دمجت المدرستين في الجامعة السورية في 15 يونيو/حزيران 1923، وغُيّر اسمها إلى جامعة دمشق في فترة الوحدة السورية المصرية عام 1958

***

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *