100 عام على إلغاء الخلافة… حكماء عارضوا عودتها وداعش خطفها؟
سامي مروان مبيّض (المجلة، 3 آذار 2024)
في مثل هذا اليوم قبل مئة عام، ألغى كمال أتاتورك منصب “الخلافة الإسلامية” في تركيا، بعد أربعة عشر شهراً على إلغاء السلطنة العثمانية التي حكمت البلاد ستة قرون ونيف. نُقلت صلاحيات آخر خليفة من بني عثمان، عبد المجيد الثاني، مع كل الأموال المخصصة له، إلى البرلمان التركي، ونُفِي الرجل إلى سويسرا أولاً، ثم إلى فرنسا، ليقيم مدة في مدينة نيس الساحلية قبل وفاته في العاصمة باريس في 23 أغسطس/آب 1944. لم تُبدِ الصحافة الفرنسية أي اهتمام لرحيله، لتزامنه مع تحرير باريس من الاحتلال النازي. أما آخر السلاطين محمد رشاد السادس، فقد توفي في منفاه بمدينة سان ريمو الإيطالية سنة 1926، ونقل جثمانه إلى دمشق ليوارى الثرى في تكية السلطان سليم، إلى جانب أولاد السلطان عبد الحميد الثاني.
ظن أتاتورك أنه قضى على السلطنة والخلافة معاً، ولم يخطر في باله أن “الخلافة” المزعومة ستعود، بشكل مزور ومشوه للغاية، بعد تسعين سنة من قراره التاريخي، ليس في إسطنبول بل في مدينة الرقة السورية، عندما أعلن إبراهيم عواد البكري – الملقب بأبو بكر البغدادي – نفسه “خليفة” سنة 2014. كانت الخلافة العثمانية قد عاشت طويلاً، ولكن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والجمهوريين الأتراك، سحقوها وقزموها قبل أن ينقضوا عليها كلياً.
حكماء المسلمين رفضوا فكرة عودة “الخلافة”، لأن أي شخصية معاصرة مهما علا شأنها لا تصلح لها
جاء بعض المستشارين ليقولوا للرئيس التركي بعد فصل “الخلافة” عن السلطنة إنه يمكن المحافظة عليها بما يخدم مصلحة الجمهورية التركية، وقد نصحوه بأن يستفيد من منصب “الخلافة” مع مسلمين من العالم، وكان عددهم 1.5 مليون مسلم في حينها، وجعل مكانة تركيا في العالم الإسلامي أشبه بمكانة الفاتيكان عند أتباع المذهب الكاثوليكي في العالم المسيحي، ولكن أتاتورك رفض مقترحهم بشدة، وقال إنه لن يقبل ببقاء “الخلافة” في إسطنبول، لأنه يتنافى مع روح الجمهورية التركية.
محاولات لملء الفراغ
نص الدستور التركي الجديد على أن مصدر الشرعية في جمهورية أتاتورك هم الناس، وليس الدين الإسلامي، وهو ما أغضب مسلمين من العالم، وظهرت سلسلة من المبادرات لملء المنصب الشاغر، منها حركة الخلافة في الهند، وجمعية الخلافة في سورية.
الأمير سعيد الجزائري في منزله بدمشق أمام صورة كبيرة لجده الأمير عبد القادر الجزائري
نادى رئيس الجمعية في دمشق الأمير سعيد الجزائري بضرورة العثور على “خليفة” صالح لتولي شؤون الأمة، عارضاً نفسه في مقدمة المرشحين، مع التحذير من ظهور شخص مُدع أفاك – وكأنه تنبأ بظهور أبو بكر البغدادي – يقول في يوم من الأيام إنه “الخليفة” المنتظر. أيده في مخاوفه كل من الشريف حسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى، وملك مصر فؤاد الأول، ولكن كل واحد منهما رأى أنه يصلح ليكون “الخليفة،” بدلاً من عبد المجيد الثاني.
بين الشريف حسين والملك فؤاد
رأى الشريف حسين أنه يستوفي كل الشروط عند المسلمين، لأنه قرشي من آل البيت، مستذكراً الحديث الصحيح: “لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان،” المروي عن الصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب. أعلن الشريف حسين ترشحه لـ”الخلافة” في 11 مارس/آذار 1924 – بعد أسبوعين من إلغاء المنصب في تركيا – وفي غضون أربع وعشرين ساعة دعا الملك فؤاد لعقد مؤتمر لعلماء المسلمين في القاهرة لمناقشة مستقبل “الخلافة.”
الشريف حسين بن علي يوم أعلن رغبته في “الخلافة”لم يُخف الملك المصري رغبته في تولي المنصب، بدعم كامل من علماء الأزهر، ولكن طموحاته وطموحات الشريف حسين أُجهضت من قبل الملك عبد العزيز آل سعود، الذي كان له القول الفصل في شؤون العالم الإسلامي، ورفض فكرة عودة “الخلافة.” واعتبر حكماء المسلمين، أن أي شخصية معاصرة في القرن العشرين مهما علا شأنها لا تصلح لـ “الخلافة” لأنها لا يمكن أن تقارن بالخلفاء الراشدين، الذين كانوا صحابة مبشرين بالجنة، وأرفع مقاماً وخُلقاً وديناً من أي أحد.
بقي الموضوع عالقاً لسنوات حتى مجيء حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ليطرحه من جديد سنة 1928، وبعدها تبناه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ونائبه أيمن الظواهري الذي بشر بقرب عودة “خلافتين” سنة 1982، الأولى في أفغانستان، والثانية في الشيشان.
الإخوان ومشروع الخلافة
اتخذ صناع القرار في الولايات المتحدة من هذه الأحاديث ذريعة لحروبهم في عهد الرئيس جورج بوش الابن، الذي ذكر كلمة “الخلافة” أربع مرات في خطاب واحد له سنة 2006. وقال نائبه ديك تشيني إن القاعدة تريد “استعادة الخلافة القديمة” بينما حذر وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد من أن تنظيم القاعدة يسعى “إلى إقامة خلافة بدلا من الأنظمة الإسلامية القائمة.” بينما قال النائب الأميركي آلان ويست في أغسطس 2011: “ما يسمى بالربيع العربي لا علاقة له بالديمقراطية بل هو المرحلة الأولى من استعادة الخلافة الإسلامية.”
أمين “حركة النهضة” رأى أن “الخلافة السادسة” ستظهر في تونس عن طريق السياسيين الإسلاميين
ويبدو أن هذا الكلام جاء ردا على أمين عام حزب النهضة الإسلامية في تونس حمادي الجبالي قبل توليه رئاسة الحكومة في بلاده، يوم ظهر في مقطع مصور مخاطباً أنصاره في مدينة سوسة بالقول: “يا إخواني أنتم أمام لحظة تاريخية… في الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله.” أثار كلامه يومها عاصفة من الاستنكار، وكان الجبالي يُشير إلى الخلفاء الراشدين الأربعة، يضاف إليهم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي قُتل مسموماً. ورأى أن “الخلافة السادسة” ستظهر في تونس عن طريق السياسيين الإسلاميين الذين تولوا الحكم بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي. وقد أثنى على كلامه كل من زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، ومرشد الإخوان في مصر محمد بديع.
لم يعارض أي من هؤلاء إعلان أبو بكر البغدادي نفسه “خليفة” مزعوماً سنة 2014، أولا لأن الفكرة كانت تروق لهم جميعاً، ولأن البغدادي نفسه كما تبين لاحقاً كان عضواً في الإخوان المسلمين. ولم يعترض إخوان مصر على قول أبو محمد العدناني، الناطق الرسمي باسم تنظيم داعش: إن “الخلافة حلم في ضمير كل مسلم”. اعتراضهم الوحيد كان على شخص البغدادي، وقولهم إنه لا يستوفي شروط البيعة، علما أنه سوغ مبايعته بالقول إنه قرشي منسوب لآل البيت، وكان ينهي بياناته باسمه الكامل “أبو بكر البغدادي الحسني القرشي.”
عن قصد أو جهلا بتاريخ الإسلام، اعتبر خبراء أجانب أن “خلافة داعش” المزعومة استمرار لـ”الخلافة” الإسلامية القديمة
ولكن علماء المسلمين كان لهم رأي آخر، فقد رفضوا بيعة البغدادي و”خلافته” المزعومة، ووقعوا بياناً مشتركاً موجها له بالاسم، اتهموه فيه بتشويه الحديث الشريف، وتفسير القرآن الكريم. حتى في فرنسا خرج آلاف المسلمين الغاضبين يومها رافعين شعار: “ليس باسمنا،” ودعت دار الإفتاء المصرية إلى تسمية داعش بـ”الدولة اللا إسلامية.” مع ذلك، انجرف عدد لا بأس به من الخبراء الأجانب، إما عن قصد أو بسبب جهلهم بتاريخ الإسلام، وعدوا “خلافة داعش” المزعومة استمرارا لـ”الخلافة” الإسلامية القديمة التي بدأت مع أبو بكر الصديق، وآلت إلى أبو بكر البغدادي، دون التطرق إلى الفوارق الشاسعة بينهما.
كان الصديق – أو العتيق كما يحلو لأهالي قريش أن يسموه – عالماً وفقيها ومشرعاً، أسلم على يد رسول الله، وكان حافظا للأنساب العربية، ومدافعا عن حقوق الفقراء والمساكين. أما من انتحل اسمه فقد كان عبارة عن مجرم سفّاح، شوه دين محمد، وأضر بسمعة أتباعه وخلفائه الحقيقيين، مستغلاً منصب “الخلافة” لتحقيق مآربه التنظيمية والمتطرفة وتجنيد متطرفين، إثباتاً لتحذيرات حكماء المسلمين، وتصديقاً لتوقع الأمير سعيد الجزائري قبل مئة عام من اليوم.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!