يوم زار نيكسون دمشق

سامي مروان مبيّض (المجلة، 15 حزيران 2024)

في 15 يونيو/حزيران 1974، حطّت الطائرة الرئاسية الأميركية “سلاح الجو رقم واحد” في مطار دمشق الدولي، وعلى متنها الرئيس ريتشارد نيكسون مع زوجته بات، ووزير خارجيته هنري كيسنجر. في العرف السياسي، لا يزور الرئيس الأميركي أي بلد إلا في حال وجود سفارة أميركية في عاصمتها، وتكون زيارته عادة لتوطيد العلاقات الثنائية بين البلدين. لكن زيارة نيكسون إلى سوريا كانت لإحياء العلاقة من جديد بعد قطيعة دامت منذ حرب 1967، على غرار زيارته التاريخية إلى الصين سنة 1972 التي أعادت العلاقات بين واشنطن وبكين بعد قطيعة دامت سنوات طويلة.

تأتي ذكرى الزيارة في وقت سادت فيه منذ أكثر من عشر سنوات القطيعة الكاملة بين دمشق وواشنطن، تخلّلها احتلال أميركي لمناطق غنية في شمال شرقي سوريا وعقوبات خانقة فُرضت على البلاد من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ سنة 2011، وتتزامن أيضا مع الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الرئيس السوري حافظ الأسد يوم 10 يونيو 2000.

 

غيتي

الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أثناء زيارته الرسمية إلى دمشق مصافحا الرئيس السوري حافظ الأسد.

جاءت الزيارة ضمن جولة مشرقية للرئيس الأميركي جمعته بملك المملكة العربية السعودية فيصل بن عبد العزيز آل سعود، والملك الأردني الحسين بن طلال، والرئيس المصري أنور السادات. وبعد دمشق كان من المقرر أن يتوجه إلى إسرائيل للقاء رئيس الوزراء إسحق رابين. الهدف المعلن من الجولة كان دفع عملية السلام في الشرق الأوسط، ولكن في طياتها كانت رغبة نيكسون في لفت الأنظار والتغطية على فضيحة ووترغيت المدوية في أميركا، بعد اتهام إدارته بالتنصّت على خصومه في الحزب الديمقراطي داخل مبنى ووترغيت في العاصمة واشنطن قبل سنتين. كان يعلم أن العرب لن يتطرقوا بتاتا إلى هذا الموضوع لأنه بعيد جدا عن اهتمامهم ومشكلاتهم، بل سيستقبلونه بحفاوة استثنائية ما قد يُتيح له فرصة أخيرة لتحقيق اختراق ما في المنطقة، يُطفئ لهيب ووترغيت.

غياب الوزراء الشيوعيين ومجيء السائح الأميركي الأول

حلقت الطائرات الحربية السورية في سماء دمشق لاستقبال الرئيس الضيف القادم من المملكة العربية السعودية ومرافقة طائرته إلى المهبط، حيث كان في استقباله الرئيس الأسد مع كامل فريقه الحكومي باستثناء الوزيرين الشيوعيين اللذين أقصيا عن المراسم تجنبا لأي إحراج، وهما وزير المواصلات عمر السباعي، ووزير الدولة ظهير عبد الصمد. قدّم الرئيس السوري الوزراء إلى ضيفه الأميركي وعندما وصلوا إلى وزير السياحة عبد الله الخاني سأله نيكسون: “هل يأتيكم سيّاح من أميركا؟” أجابه الخاني بالنفي، فقال نيكسون مازحا: “عُدّني إذن أول سائح، وسأبعث إليكم بالكثير من السياح الأميركيين”.

الزيارة الأولى منذ ثيودور روزفلت

انتقل الرئيسان في موكب رسمي إلى مقر إقامة الرئيس الأميركي وسط العاصمة، وعلى طرفي الطريق كانت الجماهير الغفيرة بانتظارهم، وكانت محافظة دمشق قد زيّنت الشوارع بالورود، وأزالت العشوائيات في طريق المطار، مع منع الأهالي من تعليق الغسيل على الشرفات والاهتمام بنظافة المدينة، ليعلّق الوزير الخاني في مذكراته: جعلني (المشهد) أتمنى أن يزورنا كل أسبوع رئيس لتبقى دمشق نظيفة مزدهرة.”

كانت هذه أول زيارة لرئيس أميركي إلى دمشق منذ إطلاق العلاقات الثنائية بين البلدين سنة 1944، علما أن سلفه ثيودور روزفلت كان قد زار سوريا في رحلة صيد طيور عام 1872، قبل ثلاثين سنة من دخوله البيت الأبيض. وقد فتحت الزيارة المجال لعقد قمم سورية أميركية عدة في سنوات لاحقة، جمعت الرئيس الأسد بالرؤساء جيمي كارتر وجورج بوش الأب وبيل كلينتون، الذي زار دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 1994 واستقبل بحفاوة لا تقل عن الحفاوة الكبيرة التي استقبل بها نيكسون.

 

كانت هذه أول زيارة لرئيس أميركي إلى دمشق منذ إطلاق العلاقات الثنائية بين البلدين سنة 1944

 

 

قبل أسبوع من زيارة نيكسون أجرى الأسد لقاء نادرا مع مجلة نيوزويك الأميركية أجراه الصحافي الأميركي البلجيكي أرنو دو بورشغراف، أثنى فيه الأسد على دور هنري كيسنجر في مفاوضاته المكوكية بين العرب وإسرائيل بعد حرب أكتوبر 1973. وقد رحّبت إدارة نيكسون بما جاء في اللقاء لأن الأسد لم يذكر وزير خارجية الاتحاد السوفياتي أندريه غروميكو في حديثه، وأعطى اليد العليا للولايات المتحدة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.

من قصر الضيافة إلى نادي الشرق

نزل نيكسون في قصر الضيافة في شارع أبي رمانة بدمشق، الذي يعود تاريخ بنائه إلى خمسينات القرن العشرين والذي أعلن الرئيس جمال عبد الناصر من على شرفته قيام الوحدة السورية المصرية سنة 1958. وفي المساء، أقيمت لنيكسون مأدبة عشاء رسمية في نادي الشرق، أشهر مطاعم دمشق في حينها، وقد وضعت أمامه أشهى الأطباق السورية. وقال له الرئيس الأسد ممازحا العبارة الشعبية السورية: “الأكل عندنا يا سيادة الرئيس يكون عادة على قد المحبة”. فرد نيكسون مشيرا إلى بطن وزير خارجيته: “الآن فهمت لماذا كلما أتى كيسنجر لزيارتكم عاد وقد زاد وزنه سبعة أرطال (باوند)”.

المفاوضات في حضرة صلاح الدين الأيوبي

وفي صباح 16 يونيو، توجهت السيدة الأولى بات نيكسون إلى مدينة دمشق القديمة لزيارة الجامع الأموي، وسوق الحميدية، وقصر العظم، وقدمت لها الرئاسة السورية علبة من الصدف الدمشقي وفي داخلها قطعة حرير بروكار، واقتنت صحنا من النحاس الأحمر من أسواق دمشق الأثرية.

 

أ ف ب وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر أثناء اجتماع مع الرئيس  حافظ الأسد في دمشق في 30 يناير 1974

 

وفي طرف آخر من المدينة، في قصر الروضة خلف ساحة أبي العلاء المعري، انطلقت المفاوضات الرسمية بين زوجها ونظيره السوري، تتوسطهما صورة زيتية كبيرة لمعركة حطين التي قادها صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين سنة 1187، لعلها تُذكر نيكسون بأمجاد العرب وانتصاراتهم التاريخية على المعتدين.

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *