ينبوع الشباب… ذكرى اغتيال اسرائيل قادة فلسطينيين في بيروت
سامي مروان مبيّض (المجلة، 9 نيسان 2024)
في كتابه الصادر سنة 2005، يصف الكاتب البريطاني سيمون ريف المشهد في تل أبيب عشية إطلاق عملية ينبوع الشباب الشهيرة في بيروت سنة 1973، التي تعرف عربياً باسم عملية فردان.
دعا إيهود باراك ضباطه، وجلسوا حول طاولة بنية اللون فورميكا وسط مكتبه. أخرج صورا غير واضحة من مجلد على المكتب، وقال وهو يرفع كلّ واحدة منها على الطاولة: “أبو يوسف، كمال عدوان، كمال ناصر”. الجميع كانوا يعرفون أسماءهم وصورهم جيدا. قال لهم باراك إن “الفرقة كلّفت باغتيالهم.
كان إيهود باراك يومها في الواحد والثلاثين من عمره، قبل سنوات طويلة من تسلّمه رئاسة الحكومة الإسرائيلية في 1999، يقود فرقة عمليات خاصة تشبه فرقة دلتا الأميركية، مهمتها الثأر للرياضيين الإسرائيليين الذين قتلوا في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في مدينة ميونيخ الألمانية سنة 1972.
الشخصيات التي كلّف بتصفيتها كانت من أبرز زعماء الفصائل الفلسطينية، يتقدمهم محمد يوسف النجار (أبو يوسف) القيادي في منظمة أيلول الأسود التي نفذت عملية ميونيخ. ترأس استخبارات حركة فتح، وكان مقرباً من رئيسها ياسر عرفات، أمّا كمال عدوان فكان قائد عمليات منظمة التحرير الفلسطينية، بينما عمل رفيقه كمال ناصر في لجنتها التنفيذية. جميعهم كانوا يقطنون في أبنية في حي فردان السكني في بيروت، على مقربة من منطقة الحمراء التجارية، ومن الجامعة الأميركية في بيروت. لولا الحرب الدائرة في قطاع غزة اليوم والهجوم الإسرائيلي الأخير على القنصلية الإيرانية في دمشق قبل أيام لمرت ذكرى عملية فردان مرور الكرام، ولكنها تذكّر بمدى رغبة إسرائيل في الثأر من أعدائها، وعزمها على مطاردتهم واحدا تلو الآخر، وقتلهم بأبشع الطرق. وهي تذكير بأن إسرائيل هي نفسها، لا تتغير ولا تغفر، ولا تسامح، ولا يهمها إن كانت أهدافها موجودة على جبهات القتال أو في مناطق سكنية مكتظة بالسكان، فمن ضرب وسط بيروت هم أنفسهم الذين ضربوا وسط دمشق في 1 أبريل/نيسان 2024.
التحضير لعملية ينبوع الشباب
قبل تنفيذ العملية بأشهر، باشرت إسرائيل جمع معلومات استخباراتية دقيقة عن أهدافها الثلاثة، محمد يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر، وأرسلت عميلة سرية باسم حركي “نيلسن” إلى بيروت، ادعت أنها باحثة تقوم بالتحضير لعمل تلفزيوني عن رحالة بريطانية زارت بلدان الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر. استأجرت “نيلسن” شقة في فردان قرب المباني التي يقيم فيها القادة الفلسطينيون، وصورت تحركاتهم، وكل تفاصيل العمارات التي كانوا يسكنونها، مع معلومات كاملة عن قاطنيها والشوارع المحيطة بها.
قبل تنفيذ العملية بأشهر، باشرت إسرائيل جمع معلومات استخباراتية دقيقة عن أهدافها الثلاثة، محمد يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر
وعند اكتمال الملفّات الاستخباراتية، اقترح جهاز الموساد على رئيسة الحكومة غولدا مائير أن يقوم الجيش الإسرائيلي بتنفيذ العملية عبر جنود مختصين يداهمون الأبنية ويقتلون من فيها من أهداف. رفض إيهود باراك المقترح وقال: “إن وصول الجنود إلى بيروت سيتطلب استعمال حوامات عسكرية قد تُفسد عليهم عنصر المفاجأة،” واقترح استعمال فرقة كوماندوز خاصة بقيادته. تدرب عناصرها على أبنية خاوية من السكان شمال تل أبيب، تشبه إلى حد بعيد الأبنية المستهدفة في بيروت، وتقرر أن يدخلوا العاصمة اللبنانية ليلاً متنكرين بزي سياح، وأن يلبس باراك نفسه زي امرأة خرنوبية الشعر.
شقيق نتنياهو كان حاضراً
قبل خمسة أيام من تنفيذ العملية، كان الموساد الإسرائيلي قد اغتال الدكتور باسل الكبيسي في باريس، أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ما كان يستوجب منطقياً الحذر الشديد لدى بقية الفصائل الفلسطينية، ومنهم طبعا حركة فتح. لكن يبدو أن أحدا منهم لم يكترث لما حصل في فرنسا، وظنوا مخطئين أنّ وجودهم في منطقة فردان السكنية سيجعلهم محصنين من أي عدوان إسرائيلي.
عنصر من مجموعة “أيلول الاسود” في القرية الاولمبية في ميونيخفي التاسع من شهر أبريل 1973، انطلقت مجموعة إيهود باراك من حيفا إلى لبنان على متن ثمانية زوارق محملة بـ75 جندياً، 21 عنصراً من الكوماندوز، 13 عنصر كوماندوز بحرياً، و19 زورقاً مطاطياً مجهزاً بمحركات خارجية. كان من ضمنهم يوني نتنياهو، شقيق رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو الذي قُتل في أوغندا سنة 1976، وأمنون شحاك الذي أصبح رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي في تسعينات القرن الماضي. توقف المهاجمون على مسافة 12 ميلاً من الشاطئ اللبناني، ودخلوه على متن زوارقهم المطاطية تجديفاً بعد إطفاء محركاتها لعدم إثارة أي ضجيج. وفي العودة إلى تلك العملية بعد نصف قرن ونيف من الزمن، يبدو مستغرباً جداً اليوم أن اقترابهم من الشاطئ لم يثر انتباه خفر السواحل اللبنانية، ولا حتى أهالي بيروت، المدينة التي لا تنام، لا في سنوات حربها الأهلية ولا قبلها ولا بعدها.
عملية فردان
وصل الشاطئ ثلاثة عشر عنصراً إسرائيلياً متنكرين بزي نساء، يرتدون الباروكات، ووجوههم مطلية بالمكياج، بينما انتظر البقية على مقربة من الشاطئ تحسباً لأي خطأ لوجستي قد يتطلب تدخلاً سريعا منهم. كان في انتظارهم عناصر من الموساد وصلوا بيروت قبلهم بأيام بجوازات سفر بريطانية وألمانية وبلجيكية مزورة، ونزلوا في فندق “ساندز بيتش” على البحر، حيث استقبلوا باراك ورجاله. توجهوا فوراً بسيارات مدنية إلى منطقة فردان، ومنها ترجلوا باتجاه الأبنية، يعانقون بعضهم وكأنهم عشاق. وعندما وصلوا إلى الشقة الأولى، وضعوا متفجرات على بابها، وأبرقوا إلى باراك، الذي بقي واقفاً على مدخل العمارة للمراقبة، فرد بخمس إشارات لاسلكية أطلقت المتفجرات عن بُعد.
بدا مستغربا جدا اليوم أن اقترابهم من الشاطئ لم يثر انتباه خفر السواحل اللبنانية، ولا حتى أهالي بيروت، المدينة التي لا تنام
حاول يوسف النجار الاحتماء في غرفة قريبة مع زوجته قبل أن يقتلوه، ودخلت مجموعة ثانية على كمال ناصر الجالس خلف طاولة مكتبه. أمسك بسلاحه لردهم، ولكنهم قتلوه قبل أن يفعل، وقتلوا أيضاً كمال عدوان. صادر عناصر الفرقة الإسرائيلية كل ما وجدوه أمامهم من وثائق ومستندات، وخرجوا مسرعين شاهرين أسلحتهم. قابلتهم جارة إيطالية حاولت الصراخ فقتلوها، وقد وصف أحد عناصر الكوماندوز الإسرائيليين ما جرى قائلا:
أدى الانفجار إلى فتح الباب وسط تصاعد الدخان، فدخلت وانعطفت بشكل مباشر إلى اليسار، إلى الممر الرئيس للشقة. ركضت عبر القاعة التي كنت أعرفها جيداً عن طريق التدريبات التي نفذناها… أربع خطوات أوصلتني إلى مكتب هدفي. وجدت ستة كراسي أمام المكتب، وتذكرت أنّ المخابرات العسكرية (الإسرائيلية) كانت تريد منّا أخذ أية قصاصة ورق نجدها. على يميني – بحسب المخطط الذي كنت قد حفظته عن ظهر قلب – كانت غرفة النوم الرئيسة. انفتح الباب، ورأيت الوجه الذي عرفته منذ ثلاثة أسابيع، وحملت صورته في جيب قميصي. رأيته ينظر إليّ وأنا أرفع سلاحي، فأغلق الباب. رشقات ناريّة اخترقت باب غرفة النوم، وهرعت إلى الأمام، وركلت ما تبقّى من الباب.
ايهود باراك في 13 سبتمبر 1993 اثناء توليه رئاسة اركان الجيش الاسرائيلي
على مدخل العمارة، كان إيهود باراك قد أطلق النار على حارس فلسطيني اقترب منه، فأثارت الأصوات انتباه مخفر قريب للشرطة اللبنانيّة، وجاء عناصره إلى الموقع مسرعين. دارت معركة نارية بينهم وبين الإسرائيليين، قتل فيها ثلاثة منهم عندما رمى أحد العناصر قنبلة يدوية على سيارة الجيب التي كانوا يركبونها. في الوقت نفسه، كانت فرقة ثانية من الكوماندوز تهاجم مخزن أسلحة لحركة فتح، بينما كان أمنون شحاك شخصياً يضرب بناء كبيرا من ستة طوابق كان مركزاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. عادوا جميعاً إلى نقطة الانطلاق من البحر، وركبوا زوارقهم باتجاه إسرائيل. كانت غولدا مائير قد أعطتهم عشرين دقيقة لتنفيذ العملية كلها، ولكنها استغرقت قرابة الساعتين ونصف الساعة.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!