ومات فيديل…
سامي مروان مبيّض – مجلة الصيّاد (بيروت 11 كانون الأول 2016)
حاولت كثيراً أن أتعاطف مع فيديل كاسترو عند سماع خبر وفاته منذ أيام، ولكنني بكل صراحة لم أستطع. الزعيم الكوبي الراحل عاش حياة مديدة وحافلة بالأحداث وكان مالئ الدنيا وشاغل الناس منذ أن قام بثورته في مطلع العام 1959. إذا حسبنا دونالد ترامب، يكون كاسترو قد عاصر 12 رئيساً أميركياً منذ دوايت أيزنهاور، جميعهم وعدوا بأن يطيحوا به ولكنهم فشلوا، ونجا فيديل من 638 محاولة اغتيال على يد وكالة الاستخبارات الأميركية، كما قالت لنا الصحافة الأميركية مؤخراً.
بالنسبة لخمسة أجيال متتالية من مفكري اليسار والشعبويين الاشتراكيين، كان فيديل كاسترو بلباسه العسكري وسيغاره الشهير وخطبه النارية، رمزاً للصمود في وجه الرأسمالية والهيمنة الأميركية والإمبريالية العالمية. منذ ستينيات القرن الماضي، أصبحت عبادة الرفيق كاسترو وصديقه الأسطورة غيفارا فرضاً على مثقفي العالم، ترافقت في عالمنا العربي مع الجهر بالإلحاد وارتداء البيريه والكوفية الفلسطينية وسماع موسيقى الشيخ إمام، وحفظ أشعار محمود درويش ومسرحيات زياد الرحباني. اعتبر هؤلاء المثقفون اليساريون أن كل من لم يسلك هذا النهج في حياته، بكل ما فيه من بوهيمية ثورية، لا يحق له أن يكتُب مقالاً أو أن يُلقي خطاباً ويُنشد نشيداً أو حتى يدعي أنه مثقف، فالثقافة أصبحت منذ وصول العسكر الى الحكم في هذه البلاد حكراً على اليسار، لا يمتهنها إلا من عاش طفولته وشبابه بفقر مدقع، وعمل في مهن لا تليق بمكانته الفكرية، وتجول في الأزقة جائعاً، وشحذ قوت يومه من السجاير لكي يكتُب في احد المقاهي. هكذا كان جيل كاسترو وغيفارا من المثقفين، وجميعهم اصطفوا عقائدياً اليوم في وداعه، في بادرة ولاء لا يمكن لأحد أن لا يحترمها، ولكن…
ذات يوم دار حديث بيني وبين الأديبة السورية الراحلة سلمى الحفار الكزبري في ذكرى الأربعين لرحيل صديقها الكبير نزار قباني عام 1998. كانت سلمى بنت حسب ونسب، سليلة أسرة دمشقية عريقة، والدها من ابرز رجالات الاستقلال. بدأت الكتابة وهي على مقاعد مدارس الراهبات بدمشق أيام الانتداب، ونالت جوائز عالمية وأصبحت رمزاً لتحرر المرأة العربية، قبل مجيء اليسار الى الحكم ونبذ سلمى الحفار وجيلها من المثقفين البورجوازيين بعد مصادرة أملاكهم طبعاً في عتمة قوانين الإصلاح الزراعي.
كانت كتابات سلمى ونزار وغادة السمان في دمشق وأشعار أحمد شوقي في مصر لا تتناسب مع الفكر الثوري الراديكالي، الذي حمله شعراء الثورات والأرياف، المتأثرين طبعاً بفكر كاسترو وماركس وغيفارا، فقالوا ان ذلك الجيل من الأدباء العرب ولد وفي فمه معلقة من ذهب، وكان رموزه يكتبون من ترف الحياة ومللها على عكس مفكري اليسار الذين ولدوا من رحم آلامها ومعاناتها وفقرها الأسود الذي عاشوا فيه وانصهروا بتفاصيله وكتبوا عنه ليأكلوا ويشربوا. ضحكت سلمى عند سؤالها عن ردود فعل الحكومات العربية اليسارية على وفاة نزار وقالت: “حاربوه في حياته لأنه رفض أن يمتدح أياً منهم، ولأنه كان يرمز الى طبقة اجتماعية وسياسية حاولوا جاهدين تحطيمها. اليسار العربي لم ينجب ولا نصف مثقف من وزن نزار قباني بالرغم من الإمكانات المادية والحكومية الهائلة التي وضعت تحت تصرفهم.”
اليساريون العرب، جماعة فيديل وغيفارا لم يعجبهم كل المنتمين الى سلالات الأقطاع العفن، وهي كلمة دارجة في أدبيات الستينيات، ولكنهم عاشوا حياتهم بثراء فاحش ولم يستعطوا أن يقنعوا أولادهم بشيء واحد قط، هو الفقر نفسه، وضرورة العيش فيه لكي يبدعوا. هم اليوم يملأون الصحف والمواقع الإلكترونية بمقالات مديح وتبجيل لفيديل كاسترو وهذا حقهم طبعاً، ولكني أستغرب حماستهم لرجل غريب عن جغرافيتهم وواقعهم، لا يتكلمون لغته ولا يعرفون تاريخ بلاده ولا يجمعهم معه شيء الا وجود افتراضي في خندق واحد ضد الرأسمالية والبورجوازية. أنا لا أنكر أهمية كاسترو التاريخية طبعاً ولا الدور الذي لعبه في توازنات الحرب الباردة، أو أنه كان أخر أيقونات القرن العشرين، بعد وفاة مانديلا. ولكنني أطرح مجرد سؤال وبكل جدية: ماذا تعرفون عن كاسترو وعصر كاسترو؟
اتتناسون أنه جلاد حوّل بلاده الى سجن كبير، وتمطرونه مديحاً لمجرد شتمه المتواصل للولايات المتحدة الأميركية؟ لو أرادت أميركا التخلص منه صدقوا أنها كانت فعلت من زمان، ولا حاجة الى 630 محاولة اغتيال. في العصر الحديث، القتل لم يعد بالخناجر والطعن كما كان في الجاهلية، ولا بالرصاص الحي مثل العصور الوسطى والقديمة. كانوا قادرين على قتل كاسترو لو ارداوا ذلك إما بالسُم مثلاً عبر أي كوب ماء يحتسيه، أو ربما عبر المساج كما قيل لنا عن مقتل الرئيس جمال عبد الناصر. ولكنهم أرادوا لكاسترو أن يعيش طويلاً وأن يورث الحكم الى شقيقه راؤول من بعده، لكي تبقى كوبا متخلفة ومحاصرة على كل المستويات من قبل جاراتها الأميركية. العتب ليس على مناصري كاسترو ومحبيه في الستينات والسبعينيات، بل على من ما يزال بعتقد أنه تحدى أميركا وكل من ما يزال يرى بريق آمل أو فضيلة واحدة بحكم الاشتراكية والماركسية، وعليهم ان ينظروا الى اقتصاد بلاد كاسترو وغيفارا ليعرفوا أن هذا النموذج لم يعد يصلح في القرن الحادي والعشرين.
***