وكأن التاريخ يعيد نفسه

سامي مروان مبيّض (المجلة، 20 حزيران 2024)

دبابات فرنسية تُطلق النار على الجنود الإنكليز، وطائرات حربية تُغير على أحياء العاصمة السورية. قوات أجنبية تشتبك مع بعضها بعضاً على ضفاف نهر الفرات، ورفع أعلام أوروبية على الشرفات وفي ساحات دمشق قبل الدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار، بغياب سوري كامل.

قد يبدو المشهد خارجاً من دفاتر الحرب السورية المستمرة منذ ثلاثة عشر عاماً، فالقوات الأجنبية منتشرة بكثافة في طول البلاد وعرضها، تتنافس على الحدود والبترول وعلى المرافئ والمعابر، ولكنه في الواقع ليس مشهداً معاصراً بل من الماضي البعيد، يعود إلى سنة 1941، يوم شهدت سوريا حرباً أهلية أوروبية على أرضها. لم تكن سوريا وقتها مستقلة، ليس فيها لا جيش ولا آبار نفط، ولا تنظيمات جهادية وعسكرية. وللمفارقة، فإن معظم معارك سنة 1941 دارت في المناطق نفسها التي شهدت أعنف مراحل القتال في السنوات القليلة الماضية.

لا يجب أن تضيع منا سوريا

جاءت حرب عام 1941 بعد سنة من سقوط باريس في يد الجيش النازي في 14 يونيو/حزيران 1940 وقيام حكم فرنسي موالٍ لأدولف هتلر، ترأسه المارشال فيليب بيتان من مدينة فيشي وسط البلاد. أصبحت سوريا تتبع بشكل مباشر لحكم فيشي، وشكلت مقاومة عسكرية فرنسية في بريطانيا لمحاربة النازيين، بقيادة الجنرال شارل ديغول. سقوط سوريا في يد الألمان دق ناقوس الخطر في لندن، وكان يعني قطع خطوط التجارة البريطانية مع الهند، وفقدان قواعد بريطانيا في قبرص، مع احتمال ضياع مصر، ومعها قناة السويس، ما جعل رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل يكتب في مذكراته: “لا يجب أن تضيع منا سوريا.”

دروس عراقية وإيرانية

بدا لوهلة وكأن الألمان يسابقونه على كسب ود العرب والمسلمين وتعاطفهم، بعد انتقال مفتي القدس الحاج أمين الحسيني للعيش في برلين ولقائه بهتلر، وتخصيص ساعة بث له عبر الإذاعة النازية للوصول إلى مسلمي أوروبا. رد تشرشل ببناء مسجد لندن الكبير استرضاء لمسلمي بريطانيا، وكسب عقول مسلمي الوطن العربي، ولكنه طالبهم بولاء مطلق، كما فعل العراق، وفعلت مصر يوم قطعت علاقتها الدبلوماسية مع ألمانيا، نزولا عند رغبة تشرشل.

ولكن ولاء حكام العراق فجّر ثورة عارمة ضد بريطانيا، قادها رئيس الحكومة الأسبق رشيد عالي الكيلاني في أبريل/نيسان 1941. لم يكن في العراق يومها قنصلية ألمانية، ووحدهم الإيطاليون من دول المحور كانوا ممثلين في بغداد، ولكن الكيلاني اتُهم فورا بالعمالة لهتلر، وقيل إن ثورته جاءت بتمويل وتخطيط من الرايخ الثالث.

أُسقطت حكومة نوري باشا السعيد المحسوبة على الإنكليز، وهرب رئيسها إلى الأردن، وفر الوصي على عرش العراق، الأمير عبد الإله، على متن سفينة بريطانية نقلته إلى فلسطين. دعا الكيلاني إلى جهاد مقدس ضد الإنكليز، ولبى نداءه مئات الشبان من الدول العربية المجاورة، ووصلت الحماسة إلى صفوف الجنود المسلمين الهنود العاملين في الجيش البريطاني.

منعاً لتكرار ما حدث معه في إيران والعراق بدأ تشرشل بالتحضير لغزو سوريا وتحريرها من النفوذ الألماني، ولكنه أدرك أن شعبية الإنكليز في سوريا لم تكن أفضل بكثير من شعبية الفرنسيين

 

 

تدخل تشرشل لحماية حلفائه العراقيين، وأرسل جيشه الجرار لقمع التمرد، ليتمكن سريعاً من استعادة الحكم الملكي في العراق، ونفي رشيد عالي الكيلاني إلى إيطاليا، وبعدها إلى برلين حيث حل ضيفا على هتلر. وتعامل تشرشل بالصرامة نفسها مع شاه إيران رضا بهلوي عندما رفض الأخير قطع علاقته ببرلين، وطرد الخبراء الألمان من بلاده. بالتعاون مع حلفائه الروس، أمر رئيس حكومة بريطانيا بغزو إيران، والإطاحة بملكها في شهر أغسطس/آب عام 1941. خُلع الشاه عن عرشه واستبدل به نجله محمد رضا بهلوي الذي أكد لتشرشل أنه سيكون أكثر تعاوناً مع الإنكليز، وأكثر انصياعاً لمطالبهم.

تحرير سوريا من النازية

منعا لتكرار ما حدث معه في إيران والعراق بدأ تشرشل بالتحضير لغزو سوريا وتحريرها من النفوذ الألماني، ولكنه أدرك أن شعبية الإنكليز في سوريا لم تكن أفضل بكثير من شعبية الفرنسيين، فرأى أن يعطي السوريين شيئاً ملموساً مقابل دعم مخططاته، أو عدم معارضتها. حصل على وعد صريح من ديغول بأن تضمن دول الحلفاء استقلالاً تدريجيا لسوريا، قبل انطلاق الحملة البريطانية الديغولية المشتركة في سوريا يوم 8 يونيو 1941. أول أهدافها كانت الأسواق التجارية المحيطة بالجامع الأموي، ومحلة سيدي عمود التي كانت تُعرف بالحريقة منذ أن أحرقتها الطائرات الفرنسية أثناء الثورة السورية الكبرى عام 1925.

 

قادة الحلفاء يجتمعون في سوريا 

رسمياً، كانت حملة بريطانية – فرنسية، ولكن قوات فرنسا الحرة فيها لم تتجاوز 8 في المئة، مقابل 92 في المئة من الجنود الإنكليز. كُلف اللواء الهندي الخامس بدخول الأراضي السورية من درعا جنوبي البلاد لفتح الطريق المؤدي إلى دمشق، وفي الوقت نفسه تقدمت الفرقة الأسترالية السابعة من حيفا، واللواء الهندي العاشر من العراق باتجاه مدن دير الزور والرقة وحلب، وهي نفسها التي عصف بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في السنوات 2014-2016. القوات المكلفة باحتلال دمشق كانت من بنجاب الهند، وبعد سيطرتها على نهر الأعوج النابع من جبل الشيخ إلى غوطة دمشق، أحكمت قبضتها على بلدة الكسوة، وتوجهت نحو العاصمة السورية، التي دخلتها سالمة دون أي قتال يُذكر. كانت حرباً أوروبية على أرض سورية، وفي جزئيتها، حرباً أهلية فرنسية بين ديغول وفيشي. قوات ديغول قدرت بستة آلاف جندي، مدعومين باثنتي عشرة طائرة حربية، وعشر دبابات، وبلغت قوات فيشي 35 ألف مقاتل، مع 4 فيالق، و7 آلاف مجند، و90 دبابة، و70 سيارة مدرعة، و250 طائرة حربية. وقف السوريون على الحياد، يشاهدون القوات الأوروبية تتصارع على أرضهم في حرب ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل.

 

اتفاق عكا لم يأت على ذكر حقوق فرنسا الحرة في مستقبل سوريا، مما أزعج ديغول كثيراً، ولم يذكر شيئاً عن استقلال سوريا

 

 

في 18 يونيو 1941 دخلت قوات الحلفاء مدينة دمشق، قبل أيام قليلة من بدء الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي. المقاومة الفرنسية الأعنف كانت في مدينة تدمر الأثرية يوم 1 يوليو/تموز، وبعدها بثلاثة أيام حصلت مواجهات دامية في مدينة دير الزور، ثم دخل الجنرال جورج كاترو دمشق ممثلاً عن شارل ديغول. خرج السوريون لمشاهدته، ولكنهم لم يرحبوا به، ولم يرشوا ماء الورد والزهور، ولم يهتف أحد لا بحياته ولا بحياة ونستون تشرشل. سقط في هذه المعركة، التي أطلقت عليها بريطانيا اسم Operation Exporter آلاف جندي من قوات فيشي، مع آلاف من القوات الديغولية، دفنوا في المقبرة الفرنسية المجاورة لبساتين المزة، التي ما تزال قائمة حتى اليوم شاهدة على تلك المعارك.

اتفاق عكا

طلب ممثل فيشي الهدنة، وفي 14 يوليو 1941 وُقّعت الهدنة مع البريطانيين في مدينة عكا الفلسطينية. هل كان خيار عكا مصادفة وهي التي هُزم على أسوارها نابليون بونابارت بعد حصاره الشهير عام 1799؟ أجريت المفاوضات في خيمة نُصبت في معسكر بريطاني أصبح اليوم مستعمرة زراعية إسرائيلية، ومثّل الفيشيين الجنرال هنري دانتز والكولونيل جوزيف فريدهاك، وجلس أمامهم جورج كاترو، فيما غاب أي ممثل عن سوريا، كما حدث في مؤتمر جنيف الأول قبل عشر سنوات.

قبل دخوله الاجتماع، تفاجأ كاترو بسرقة قبعته العسكرية المذهبة من قبل لص مجهول – يُعتقد أنه كان يعمل لصالح الإنكليز – وجلس في الاجتماع حاسر الرأس في أكبر إهانة ممكنة لضابط مخضرم مثله. لم تكن هذه أول إهانة يتلقاها كاترو من البريطانيين، فعند دخوله بيروت مع الجنرال البريطاني هنري ويلسون في يوليو 1941، استقبلهم مدير مكتب دانتز بتجاهل كامل، وأدار له ظهره معطياً اهتمامه الكامل للضباط الإنكليز بصفتهم المنتصر الحقيقي في معارك سوريا.

خلافات بريطانية فرنسية في سوريا

اتفاق عكا لم يأت على ذكر حقوق فرنسا الحرة في مستقبل سوريا، مما أزعج ديغول كثيراً، ولم يذكر شيئاً عن استقلال سوريا. منع الاتفاق الفرنسيين الأحرار من التواصل المباشر مع فلول فيشي في سوريا ومن تجنيدهم، وفي محاولة بائسة منه لتعديل بنود الاتفاق، حط ديغول في القاهرة يوم 20 يوليو 1941 وهو يتوعد بريطانيا بالثأر، ويقول إنه عقد العزم على تمزيق اتفاق عكا. ظنّ ديغول أن العملية العسكرية ستعيد لفرنسا نفوذها في سوريا، ولكن بدا واضحاً له أنها كانت اللبنة الأولى لإخراجها من المنطقة كلها. في لقائه العاصف مع تشرشل انفجر، وقال: “لا أعتقد أن بإمكاني التفاهم مع الإنكليز. أنتم جميعاً متشابهون، تهتمون بمصالحكم الخاصة فقط، ولا تبدون أي اهتمام بمتطلبات الآخرين. هل تعتقد أن انتصار بريطانيا في الحرب يعنيني؟ كلا، أنا لست مهتما إلا بنصر فرنسا.”

وعندما دعا إلى استقبال في مقر إقامته في بيروت، قرر ديغول استقبال السير إدوارد سبيرز (وزير بريطانيا المفوض في سوريا ولبنان) بفتور، كأنه وبحسب تعبير الأخير “خارج من الثلاجة،” فقد تأخر عشر دقائق، وعاد به موظف التشريفات إلى الحديقة الأمامية لتوديعه، دون دعوته للانضمام إلى بقية الضيوف. كانت رسالة ديغول واضحة: إن قصر الصنوبر هو بيته، مثل كل أراضي لبنان وسوريا، وهو يقرر من يدخله، وفي أي وقت يدخله. بقي ديغول متنقلاً بين سوريا ولبنان حتى شهر سبتمبر/أيلول عام 1941، لا يترك مناسبة إلا ويشتم فيها الإنكليز وزعيمهم. لإجباره على السكوت والعودة إلى لندن، هدد تشرشل بقطع المعونات عنه، التي كانت تبلغ 300 ألف جنيه إسترليني، تُدفع في التاسع من كل شهر، ومعها قرابة 250 ألف جنيه مخصصة لمنطقة الشرق الأوسط.

 

عندما فشل ديغول في تقليم أظافر تشرشل في سوريا، بدأ يعاكسه بأمور صغيرة، كإصراره مثلاً على نوم جنوده في الثكنات السورية وبقاء البريطانيين في الخيام

 

 

انزعج تشرشل من حدة انتقادات ديغول وتكرارها على مسمع الجميع، وفكر جدياً في منعه من دخول سوريا. ولكن بدلاً من إقصائه، قرر مشاركته في إدارة سوريا – ولو بشكل مؤقت – حيث تكون الشؤون العسكرية مستقبلاً بيد الإنكليز، والسياسية بيد الفرنسيين. وعندما فشل ديغول في تقليم أظافر تشرشل في سوريا، بدأ يعاكسه بأمور صغيرة، كإصراره مثلاً على نوم جنوده في الثكنات السورية وبقاء البريطانيين في الخيام، ورفض طلب سبيرز توظيف مواطنين سوريين كسائقين وطهاة وحراس، قائلا إنهم يتبعون لفرنسا الحرة، ولا يمكنهم العمل مع غيرها إلا بموافقته.

وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير يوم أدلى ديغول بحديث صحافي مع جريدة Chicago Daily News في 1 سبتمبر 1941، اتهم فيه تشرشل بالتعاون الخفي مع النازية، فرد الأخير مستغرباً: “يبدو أن ديغول قد فقد عقله.” أمر تشرشل بمنع ظهور ديغول على إذاعة BBC، وسطر رسالة غاضبة إلى الرئيس فرانكلن روزفلت قال فيها: “لم يعد بإمكان بريطانيا اعتبار ديغول صديقاً موثوقاً. فعلى الرغم من كل ما قدمت بريطانيا له، بادرها بالكره حيثما ذهب، وفي سوريا، بث الخلاف بيننا وبين الفرنسيين.”

وفي رسالة سرية منه إلى وزارة الحربية البريطانية، كتب قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط: “الفرنسيون أُعطوا أكثر من فرصة. لقد فشلوا في تعاملهم مع الأهالي، وفشلوا في تعاونهم معنا. وجهة نظري أن هذا أمر خطير وغير مرضٍ، ولا يمكن استمرار الوضع على ما هو عليه الآن. لا يمكننا إعطاء فرصة ثانية لأشخاص فشلوا في كل شيء. الفرنسيون لم يتغيروا، ولا يريدون أن يتغيروا.”

أعلنت فرنسا استقلال سوريا عبر منشورات ملونة أسقطت من الطائرات الحربية، مشترطة بقاء قواتها في سوريا إلى حين انتهاء المعارك القتالية في أوروبا. ومن يومها انطلقت معركة جديدة بين فرنسا وبريطانيا، سياسية هذه المرة، هدفها تقليم أظافر الفرنسيين في سوريا، تمهيدا لإخراجهم منها بالقوة العسكرية سنة 1945.

***
0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *