وثائق حرب أكتوبر 1973… ثغرة الدفرسوار والخداع الإستراتيجي

سامي مروان مبيّض (المجلة، 2 آذار 2024)

“إن طبيعة الشعب العربي، وما يتصف به من عدم المحافظة على السرية، وعدم الاحتفاظ بما يصله من معلومات تحتم علينا التحفظ في تداول المعلومات الحقيقية التي تمس الخطط الاستراتيجية حتى لا تُسرب للعدو عن طريق تناولها على ألسنة الأفراد، ولو من دون قصد سيئ. هذا ويمكن الاستفادة من تلك الطبيعة نفسها في سرعة نشر المعلومات.”

هذا ما كتبه مدير أكاديمية ناصر العسكرية العليا إلى القيادة المصرية أثناء التحضيرات لحرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، رابعة الحروب العربية الإسرائيلية بعد حرب فلسطين الأولى عام 1948، وحرب السويس عام 1956، وحرب يونيو/حزيران 1967.

يوم السبت الماضي، أفرجت وزارة الدفاع المصرية عن هذا التقرير المصنف “سري جداً/” ضمن مئات الوثائق والمراسلات التي نُشرت على موقعها الإلكتروني في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر. تمكن المصريون والسوريون يومها من كتم سرهم، ليفاجئوا بهجومهم المباغت إسرائيل في يوم الغفران (يوم كيبور). كل الوثائق المفرج عنها جاءت باللغة العربية دون ترجمة، لا إلى العبرية ولا إلى الإنجليزية، واللافت أن غالبيتها مكتوب بخط يد مقروء وجميل للغاية، وأن القادة العسكريين المصريين قلما اعتمدوا الآلة الكاتبة في تقاريرهم. استغرب كثيرون تاريخ النشر، وربط بعضهم بينه وبين الحرب الدائرة في قطاع غزة، علما أن وزارة الدفاع المصرية كانت قد شكلت لجنة مختصة لمراجعة هذه الوثائق قبل أشهر من الأحداث الأخيرة، ونشر ما تراه منها مناسباً، كون القانون المصري يُجيز رفع السرية عنها بعد مضي خمسين سنة. وقد قُتل في هذه الحرب 5000 جندي مصري، وما بين 3000-3500 جندي سوري، وقُتل ثلاثة آلاف جندي إسرائيلي.

 

في الوثائق سجل المكالمات الهاتفية واللاسلكية الواردة إلى القيادة العسكرية المصرية قبل الحرب وأثناءها

 

 

ما يهمنا هو الوثائق المفرج عنها، وما تكشفه مما كان يجري تداوله في دوائر صنع القرار المصرية أثناء الحرب، وفي الأشهر والأسابيع التي سبقتها. معظم قادة مصر سنة 1973 نشروا مذكراتهم عن حرب أكتوبر، وفي مقدمتهم الرئيس محمد أنور السادات، ورئيس أركان الجيش المصري سعد الدين الشاذلي الذي تبادل معه الاتهام حول المسؤولية عن ثغرة الدفرسوار الشهيرة التي حققت اختراقاً كبيراً للجيش الإسرائيلي في المدة ما بين 15-23 أكتوبر.

نجد بين الوثائق المصرية اليوم نسخة بخط اليد لمذكرات المشير محمد عبد الغني الجمسي، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة في حينها، التي نُشرت كاملة سنة 1989، مع الكثير من القرارات العسكرية والإدارية التي لا قيمة حقيقية لها إلا للمختصين وللمؤرخين الحربيين.

في الوثائق سجل المكالمات الهاتفية واللاسلكية الواردة إلى القيادة العسكرية المصرية قبل الحرب وأثناءها، مع ملف كامل عن الإعلام الحربي في كل من مصر وإسرائيل، وفيها تقارير عن خسائر حرب يونيو 1967 التي بلغت وبحسب التقديرات العسكرية غير المعلنة 25 ألف شهيد مصري، وأن الجيش الإسرائيلي دمر يومها 80 في المئة من عتاد القوات المسلحة المصرية، خلافا لما قاله قائد الجيش في حينها المشير عبد الحكيم عامر، الصديق الشخصي للرئيس جمال عبد الناصر.

 

لم يكن السادات في غفلة عن “الدفرسوار” كما كتب كثيرون من أعدائه ومنتقديه، وتظهر الوثائق أنه حذر منها

 

ثغرة الدفرسوار

تقول الوثائق إن اللواء عبد الغني الجمسي اجتمع بقادة أركانه مطلع عام 1973، وطلب إليهم تحديد الوقت الأنسب من السنة للهجوم على إسرائيل. وقد تولى قائد القوات الجوية في حينها، اللواء الطيار محمد حسني مبارك، مهمة تحضير الدراسة المطلوبة، واقترح أن تكون المعركة في الليالي القمرية مع اقتراح تواريخ عدة، أولها في 13-23 فبراير/شباط، وآخرها في المدة ما بين 5-15 ديسمبر/كانون الأول 1973.

أما الوثائق المتعلقة بثغرة الدفرسوار – وهي الأهم فيما جاء في الإفراجات المصرية الأخيرة – فتشير إلى أن القيادة المصرية كانت قد تنبهت إلى الثغرة، ووضعت خطة للقضاء عليها سميت بـ”شامل”، و”شامل المعدلة.”

 

أ ف ب

وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر يلتقي بالرئيس المصري أنور السادات خلال زيارته للقاهرة في 7 نوفمبر 1973لم يكن السادات في غفلة عنها كما كتب كثيرون من أعدائه ومنتقديه، وتظهر الوثائق أنه حذر من إمكانية عبور القوات الإسرائيلية عبر الثغرة لتطويق الجيش المصري الثالث، والانتقال من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم. كانت عملية الدفرسوار بقيادة أرئيل شارون – رئيس وزراء إسرائيل بعد سنوات – وكان الهدف منها إنشاء جسور على الضفتين الشرقية والغربية لقناة السويس. وصلت القوات الإسرائيلية على متن قوارب مطاطية مدعومة بدبابات، وأغارت على مواقع الصواريخ المصرية ما أحدث ثغرة في نظام الدفاع الجوي المصري، غيرت لمدة وجيزة موازين القوى.

يبدو أن المصريين لم يفرجوا عن كل ما في جعبتهم من وثائق

 

 

وفي التقارير نجد معلومات تفصيلية عن أسرى الحرب الإسرائيليين، مكان إلقاء القبض عليهم في بور سعيد وتاريخه، وتحويل معظمهم إلى قاعدة المنصورية للتحقيق والاحتجاز، إضافة إلى جرد كامل لغنائم الحرب المصرية، ومنها على سبيل المثال 33 لغم إنذار، و114 قنبلة يدوية، ومئات الآلاف من الطلقات.

ما تنقصه الوثائق

يبدو أن المصريين لم يفرجوا عن كل ما في جعبتهم من وثائق. وهذا من حقهم طبعاً، ففي الملف المخصص لعبور خط بارليف، الذي أنشأته إسرائيل بعد احتلال سيناء سنة 1967، لا نجد إلا سبع وثائق فقط لا غير، بتاريخ 7- 9- 13- 14 أكتوبر، ليس فيها أي جديد أو قيمة مضافة. وقد كان هذا العبور، الذي جرى بمضخات مياه دمرت السواتر الترابية الإسرائيلية، من أشهر إنجازات الجيش المصري يومها، وقد لُقب على أثره الرئيس السادات بـ”بطل العبور”.

إضافة إلى أن الوثائق لا تُشير إلى أعمال القيادة العسكرية المشتركة بين مصر وسورية، ولا إلى محاضر اجتماعات الرئيسين السادات وحافظ الأسد. نجد فيها رسالة من الملك المغربي الحسن الثاني بتاريخ 8 أكتوبر يقول فيها للسادات عبر سفير الأخير في الرباط إن بلاده تقف مع مصر في حربها، وإنها على استعداد لإرسال 2500 جندي للقتال مع معداتهم ابتداء من صباح اليوم التالي.

وأرسل الرئيس الحبيب بورقيبة رسالة مماثلة في اليوم نفسه، عن استعداد بلاده لإرسال ألف جندي تونسي إلى ميدان المعركة، مزودين بذخيرة تكفي لأربعة أيام، مقترحاً الحصول على المزيد من الذخيرة من المملكة العربية السعودية، ومطالبة العقيد الليبي معمر القذافي بتأمين نقلها.

بالعودة إلى تقرير مدير أكاديمية ناصر العسكرية – غير المؤرخ – نجد فيه خطة متكاملة بعنوان “الخداع الاستراتيجي،” تتضمن الدعوة إلى “تضخيم بعض النزاعات التي تنشأ بين الدول العربية بما يوحي (للعدو) بصعوبة العمل العربي الموحد ضد إسرائيل في الوقت الحاضر.” يُعطي مدير أكاديمية ناصر أمثلة  كتضخيم قضية النزاع الحدودي بين العراق والكويت، وبين اليمنيين، وينصح وزارة الإعلام المصرية بإبراز مشاكل الجبهة الداخلية في وسائل الإعلام، وطرح حلول يستغرق تحقيقها وقتا طويلا.

لا نعرف إن كانت مصر ستفرج عن المزيد في المستقبل لمقارنته بالأرشيف الإسرائيلي، في انتظار الأرشيف السوري

 

 

مقارنة بما نشرته إسرائيل قبل أشهر

يُذكر أن إسرائيل سبقت مصر في الإفراج عن وثائقها المتعلقة بحرب أكتوبر، لتكون سورية هي الوحيدة بين الدول الثلاث التي لم تفرج بعد عن أرشيفها. وقد جاء في الوثائق الإسرائيلية المفرج عنها في الخريف الماضي أن الملك الأردني الحسين بن طلال قدم لغولدا مائير تقريراً شفهياً في 25 سبتمبر/أيلول عن “استعدادات” مصر وسورية لشن هجوم مباغت، بناء على ما جاء في مفكرة إيلي مزراحي، مدير مكتب رئيسة الحكومة الإسرائيلية.

لا شيء في الأرشيف المصري يوحي بصحة هذا الكلام، وإذا قارنا بينه وبين ما نشرته إسرائيل قبل أشهر، نجد أن تحذيرات الملك الأردني جاءت متأخرة جداً لأن خطط الحرب المصرية بدأت قبل تحذيره بتسعة أشهر. وفي الأرشيف الإسرائيلي أيضاً تحذير ثان وصلها من أشرف مروان، صهر جمال عبد الناصر، الذي يُعتقد أنه كان يعمل لصالح الموساد، أو أنه كان عميلاً مزدوجاً لمخابرات بلاده كما يقول المدافعون عنه. وقد أخذ الإسرائيليون تحذيره على محمل الجد، عكس تعاملهم مع رسالة الملك حسين.

الأرشيف الإسرائيلي يحتوي على 400 مليون وثيقة، يقوم 17 باحثاً بنسخها وتحليلها وفرزها، وجميعهم موظفون تابعون لرئاسة الحكومة. لم يُنشر منها حتى اليوم إلا 30 ألف وثيقة، جميعها بالعبرية، ومنها 3500 وثيقة عن حرب أكتوبر. الوثائق الإسرائيلية كانت تحتوي على 1400 ملف، ألف صورة و750 تسجيلاً صوتياً، وهو ما غاب بشكل كامل عما نشرته وزارة الدفاع المصرية قبل أيام.

لا نعرف إن كانت مصر ستفرج عن المزيد في المستقبل القريب، ولو فعلت فإنه يمكن مقارنة ما فيها من معلومات  بما جاء في الأرشيف الإسرائيلي، بانتظار الأرشيف السوري لتكتمل صورة حرب أكتوبر.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *