منيح ما عاشوا
سامي مروان مبيّض (دمشق، 20 أيلول 2018)
توفيت صباح يوم أمس في 19 أيلول 2018 السيدة لميس الحفار، رئيسة مجلس إدارة دار السعادة للمسنين، التي قضت سنوات عمرها الأخيرة في خدمته، خلفاً للراحلات أميمة مريدن وجميلة الخيمي. الأولى كانت حرم عميد كلية الطب الدكتور عزة مريدن والثانية زوجة رئيس جامعة دمشق الدكتور مدني الخيمي، أما الحفار، فهي كريمة رئيس وزراء سورية الأسبق، المرحوم لطفي الحفار، أحد الآباء المؤسسين للجمهورية. هكذا كن “بنات المسؤولين” في هذا البلد، في يوم من الأيام.
عاشت لميس الحفار بين قاطني دار السعادة، مع العاملين فيه، تودع نزيلاً بعد الآخر، ممن سبقها إلى دار الحق.
قضت سنواتها الأخيرة في معارك يومية لتأمين الكهرباء لنزلاء الدار، والمازوت، وكافة المستلزمات الطبية، متحدية كل ظروف الحرب التي مرت بها دمشق وسقوط قذائف الهاون من حولها.
كل من عرف هذه السيدة الفاضلة أعجب بتواضعها وصلابتها وقدرتها على العطاء. كان عملها مجاناً، لا تتقاضى عليه أي أجر، وهي سليلة أسرة معطاءة عُرفت بكرمها ونُبلها، فوالدها هو مؤسس مشروع عين الفيجة، الذي أدخل مياه الشرب إلى كل بيت من بيوت الشام، مقابل مبلغ من المال يدفعونه سنوياً عن كميات المياه التي يطلبون الاشتراك بها، شرط أن تكون مرتبطة بالملك، لا يجوز التنازل عنها أو بيعها إلا مع بيع العقار، ويتم تسجيل ملكية المياه في الصحيفة العقارية لجميع دور دمشق.
توفي شقيقها بشر في نهاية العام 2016، عندما كانت مياه الفيجة مقطوعة عن دمشق، وكانت لحظة مؤلمة لكل أهالي المدينة وتحديداً لأسرة الرئيس لطفي الحفار الذي وضع لوحة في داره بشارع الرشيد بحي أبو رمانة، حيث عاشت لميس سنوات صباها، كتب عليها آيات من الذكر الحكيم: “وجعلنا من الماء كل شيء حي.”
تحدثنا ذات يوم، أنا و”لميس خانم،” عن أول من اقترح تأسيس داراً للمسنين في دمشق، المرحوم فخري البارودي، صديق والدها وزميله في الكتلة الوطنية والمجلس النيابي وفي السجون والمعتقلات الفرنسية. كان ذلك عام 1911 حيث طالب البارودي بدار “عابر للطوائف والأديان،” قبل عام واحد من تأسيس دار جمعية القديس غريغوريوس الأرثوذوكسية.
سخر أهل الشّام من فخري البارودي، قائلين بأن هذه العادة غريبة ومستهجنة عندهم، الذين اعتادوا على خدمة آبائهم حتى الممات، وهم معززون ومكرمون في منازلهم، لا يخرجون منها أبداً إلا إلى القبر.
“تغيرت دمشق كثيراً يا بني” قالت لميس الحفار، “…وتغيرت عاداتها وتغير أهلها كثيراً. قال تعالى: وبالوالدين إحسانا، ولكن الإحسان قد أصبح أصعب بكثير هذه الأيام، نتيجة مشاغل الناس، وظروف الحرب القاسية التي خلفت عدداً كبيراً من المسنين وحدهم، لا معيل لهم، بعدما فرقتهم عن أبنائهم وعائلاتهم. البعض غادر مناطق لم تعد مُخدّمة، والآخرين فروا من مناطق لم تعد آمنة، فتوجه الكثير منهم إلى دار السعادة. هنا يقطن عدد كبير من مشاهير دمشق، من آمر سلاح الطيران في زمن الوحدة اللواء وديع مقعبري وزوجته، وثروت المالكي شقيقة الشهيد عدنان المالكي، والمخرج الدمشقي علاء الدين كوكش وزميله رياض ديار بكرلي، وكلاهما من رواد التلفزيون السوري. ماتت الفنانة هالة شوكت هنا، والدكتور فاخر عاقل، والفنان ممتاز البحرة، والمطرب فتى دمشق، وغيرهم.”
انتظرت دمشق ستة عقود ونيّف قبل تحقيق حلم البارودي، يوم تأسيس دار الحنان عام 1977، وتلاه أربع مراكز أخرى كان دار السعادة آخرها، الذي فتح أبوابه للمسنين عام 1985.
من يدخل إلى قاعته الرئيسية يشاهد “لوحة المتبرعين” وفيها لفيف من رجالات دمشق، ونسائها، أمثال الدكتور عثمان العائدي والدكتور عبد الغني حمور وموفق الميداني والمرحوم الأستاذ مأمون الطباع، والدكتور حسني الصواف والسيدة عفاف صمادي، وغيرهم.
“من جر ماء الفيجة إلى بيوت الشّام هم أجداد المتبرعين لهذا المكان.”
عند باب مكتبها بالدار، خرجت لتودعني، وهي تتكئ على العكاز المزدوج (الووكر). ختمت لقائنا بسؤال أخير: “لميس خانم، كان فخري بك بعيد النظر، وكذلك الوالد. لو عاشوا إلى اليوم، ماذا سيقولون عن دار السعادة؟”
أغمضت عينيها بحزن وأجابت: “منيح ما عاشوا، وما شافوا شو صار بهالبلد…”
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!