ماذا في الأرشيف الإسرائيلي عن حرب أكتوبر؟
سامي مروان مبيّض (مجلة المجلة – لندن، 13 أيلول 2023)
لسنوات طويلة، كان “القوميون العرب” يقولون – دون إثبات أو دليل – إن ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال قدم “معلومات دقيقة” لإسرائيل قبل أيام معدودة من حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول الشهيرة سنة 1973. لكن وثائق اسرائيلية، كشفت أن ما قدمه الحسين لايعدو كونه الحديث عن “استعدادات” لاترقى لمستوى تقديم “تفاصيل الخطة” التي لايملكها بالأصل.
كانت هذه الحرب تحولاً كبيراً في مسيرة قادتها العرب، الرئيس السوري حافظ الأسد ونظيره المصري أنور السادت، وكلاهما كان حديث العهد بالسلطة، وصلا إلى الحكم بفارق شهرين سنة 1970. كُتب عنها الكثير، وفي القاهرة لقّب السادات بسببها بـ”بطل العبور” (عبور خط بارليف) وسمّي الأسد في دمشق بـ”بطل التشرينين” (الحركة التصحيحية التي أوصلته إلى الحكم في نوفمبر/تشرين الثاني 1970 وحرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973).
الملك حسين في ما ورد في الأرشيف الإسرائيلي
كانت الرواية تقول في قناة الجزيرة وعبر برنامجها المعروف سري للغاية، إن الملك الحسين رفض دخول الحرب بعد تجربته المريرة مع سوريا ومصر سنة 1967 والتي أفقدته الضفة والقدس الشرقية. وبحسب القناة، اتصل هاتفياً بغولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية في حينها، وحذرها من خطة سورية مصرية لدخول حرب حقيقية بعد حرب الاستنزاف. البعض بنى رواية الحسين – مائير على ما جاء مسبقا وبات مثبتا في كتب التاريخ، أن جده الملك المؤسس عبد الله الأول اجتمع معها قبل أيام من نشوب حرب فلسطين الأولى ووعدها بتفادي القتال في المناطق المخصصة لإسرائيل في قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947.
أما اليوم، فقد أفرج مركز الأرشيف الإسرائيلي التابع لمكتب رئيس الحكومة، عن آلاف الوثائق حول حرب عام 1973، مع اقتراب الذكرى الخمسين لنشوبها يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينها قصة موقف العاهل الاردني، وفق ما جاء في مفكرة إيلي مزراحي مدير مكتب غولدا مائير.
يقول مزراحي في أوراقه إن الحسين طلب موعداً عاجلاً مع مائير وحضر إلى إسرائيل لأجله يوم 25 سبتمبر/أيلول 1973. جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) كان يُشير إلى الملك الأردني باسم حركي مستعار، هو “LIFT” أو “ليفت”، أي: “رفع”. ورتب اللقاء بينه وبين رئيسة الحكومة في أحد مقرات الموساد القريبة من تل أبيب. تحدث الحسين بداية عن التجهيزات العسكرية السورية، دون ذكر مصر، وبحسب رواية مزراحي: “قال لنا (ليفت) إنه علِم من مصادر دقيقة جدا أن التحضيرات السورية انتهت وأن القوات السورية، ومنها سلاح الطيران، باتت منذ يومين بحالة جهوزية كاملة.” سألت مائير إن كان بإمكان السوريين دخول الحرب وحدهم دون مشاركة فاعلة من الجيش المصري؟ فرد الملك وقال إنه يشك في ذلك وأن الجانبين سيتعاونان”. رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية في حينها، إيلي زئيرا، رأى أن معلومات الملك الأردني “غير كافية،” ولن تؤخذ – بسبب هذا التقييم – على محمل الجد.
هذه الوثيقة تكشف مكان الزيارة، لكنها تشير الى ان الملك الحسين تحدث عن “استعدادات” ولاتؤكد انه تحدث عن “ساعة الصفر،” ما ينفي ادعاءات سابقة انه ابلغهم بـ “تفاصيل الخطة”، ذلك انه لم يكن بالاصل جزءا من التحالف القصير الامد بين الأسد والسادت ليكون قادرا على تقديم “تفاصيل الخطة.”
دور صهر جمال عبد الناصر
وقد وصل إلى إسرائيل تحذير ثانٍ، بحسب الوثائق التي أفرج عنها يوم 7 سبتمبر/أيلول الجاري، هذه المرة من أشرف مروان، صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. دارت حول أشرف مروان شبهات منذ زمن بعيد، وقال كثير من الكتاب المصريين إنه عمل فعلا مع الموساد، ولكنه كان عميلا مزدوجا لصالح مخابرات بلاده. كان أشرف مروان سنة 1973 يعمل في مكتب الرئيس أنور السادت ويُعد من أقرب المقربين إليه، وقد صدر كتاب عنه قبل سنوات بعنوان الملاك (وهو الاسم الحركي الذي كانت تستخدمه إسرائيل في تعاملها معه)، تحول لاحقا إلى فيلم حمل نفس العنوان من إنتاج شبكة “نيتفلكس”.
تُظهر الوثائق الحديثة أن “الملاك” التقى قبيل حرب أكتوبر بساعات معدودة برئيس جهاز الموساد تسفي زامير وقال له: “99 في المئة ستكون الحرب غداً.” ويبدو أن زامير كان أوعى من رئيس المخابرات العسكرية، وأخذ أقوال أشرف مروان على محمل الجد. وقبل ست ساعات من وقوع الحرب، أرسل برقية مشفرة إلى غولدا مائير، قال فيها إن الحرب ستبدأ “بعد ساعات.” والمعروف أن أشرف مروان توفي في ظروف غامضة يوم 27 يونيو/حزيران 2007، يوم سقوطه من شرفة منزله في لندن. البعض قال إنه انتحر وأكد آخرون أنه نُحر.
مفكرة إيلي مزراحي
لم ينته الباحثون حتى الآن من فرز الوثائق المفرج عنها وتحليلها، ولم يتمكن القراء العرب من مطالعتها لأنها باللغة العبرية. وصل عدد صفحات مفكرة إيلي مزراحي، مدير مكتب مائير وسكرتيرها الخاص، إلى ألف صفحة. ويستطيع القارئ من خلالها معرفة متى تعِب صاحبها من الكتابة، عند تردي خطه بشكل ملحوظ، ومتى جف حبره وانتقل إلى قلم جديد، أحياناً بلون مختلف.
على سبيل المثال يقول مزراحي إن غولدا مائير أصبحت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 1973 على دراية كاملة بمدى خطورة الموقف على الجبهة السورية، وقررت الانسحاب من قرى الجولان المحتلة منذ سنة 1967. دخلت إلى غرفة العمليات العسكرية في تمام الساعة 6:15 صباحاً للاستماع إلى رأي القادة، ولم تعد إلى مكتبها حتى الساعة 8:05 صباحا. اتصلت بعد عشرين دقيقة بمستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر وأخفت عنه تقرير القادة العسكريين ولم تقل له شيئا عن نيتها بالانسحاب، لكي لا يؤثر ذلك على قرار إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون بإرسال تعزيزات عسكرية لتعويض الجيش الإسرائيلي عن خسائره في اليوم الأول من الحرب.
مقارنة مع الوثائق المفرج عنها سنة 2017
الأرشيف الوطني الإسرائيلي يحتوي على 400 مليون وثيقة، يقوم 17 باحثا بنسخها وتحليلها وفرزها، وجميعهم موظفون تابعون لرئاسة الحكومة. حتى الآن لم يُنسخ منها إلا 30 ألف وثيقة، ومنها ما نشر قبل أيام عن حرب أكتوبر، وعددها 3500 وثيقة (1400 ملف، ألف صورة، 750 تسجيلا صوتيا وثمانية فيديوهات). وهناك بعض الوثائق المصنفة “سرية” لن تُفتح حتى الذكرى التسعين لحرب أكتوبر، أي سنة 2063. معظم دول العالم تحتفظ بوثائقها الحكومية ما بين 30-50 سنة، ومنذ سنوات كانت إسرائيل قد أفرجت عن الوثائق المتعلقة بحرب فلسطين الأولى ولكنها سرعان ما تراجعت وأعادت طيها بعد معاينتها من قبل مؤرخين مخضرمين، مثل بيني موريس، وأفي شلايم، وإيلان بابي، لأنها أظهرت مدى الجرائم التي حصلت يومها بحق الشعب الفلسطيني، من إعدامات ميدانية وترحيل قصري عن منازل العرب أو نسفها بالديناميت.
وقررت إدارة بنيامين نتنياهو يومها تمديد حجب الوثائق الحكومية إلى 70 سنة، أي إن ملفات النكبة الكاملة لن ترى النور إلا في سنة 2038 وملفات النكسة لن تُفتح حتى عام 2057. وبذلك فإن فتح أرشيف حرب أكتوبر يعد تجاوزا للقاعدة وليس العرف.
وفي سنة 2017 قامت إسرائيل بخطوة مماثلة يوم أفرجت عن 150 ألف وثيقة في الذكرى الخمسين لحرب يونيو/حزيران، لم يكن فيها أي جديد يذكر أو أي معلومات تدين إسرائيل، وكانت عبارة عن محاضر 36 جلسة من جلسات حكومة رئيس الوزراء ليفي أشكول. في إحدى تلك الجلسات المغلقة يعبر أشكول عن تخوفه من “مجزرة حقيقية” بحق الجنود على يد الجيش المصري، فيقاطعه رئيس الأركان إسحاق رابين مطالبا أن تكون إسرائيل هي البادئة بإطلاق النار. وأيده وزير الدفاع موشي ديان وقال: “خلال ساعات سنكون في بيروت”. ولكن وزير الخارجية أبا إيبان رد بالقول إن هذا سيجعل بلاده على “برميل من الديناميت.” ضحك أشكول وقال: “لو أن الأمر لي، لأرسلت العرب جميعا إلى البرازيل”.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!