لينين والعرب في مئوية وفاته

سامي مروان مبيّض (المجلة، 21 كانون الثاني 2024)

قبل مئة عام توفي الزعيم السوفياتي الأشهر فلاديمير لينين، يوم 21 يناير/كانون الثاني 1924. ومع أنه لم يكن قد تجاوز الثالثة والخمسين من عمره إلا أنه كان رجلاً مريضاً يُعاني من ثلاث جلطات متتالية أدت إلى شلل نصفي، وصعوبة بالغة في النطق.

نُقل جثمانه بالقطار من منزله في غوركي، شرقي موسكو. وفي العاصمة، وعلى مدى ثلاثة أيام بلياليها، اصطف الروس في البرد القارس لإلقاء نظرة الوداع على الرجل الذي حررهم من حكم القيصر، وأسس دولة عظمى عاشت بعده سنوات طويلة. قُدر عدد الناس يومها بمليون شخص، وحُنط جثمان لينين ليبقى حاضراً إلى الأبد. وفي زمن الحرب العالمية الثانية نُقل الجثمان إلى مكان آمن، خوفاً من استهدافه من قبل الألمان، ليُعاد إلى مكانه بعد انتهاء المعارك، وما زال موجوداً حتى اليوم.

كانت السلطات السوفياتية تأخذ كل زوارها العرب لزيارته، وتقلد الكبار منهم وشاح لينين، أو جائزة لينين، وكان من حامليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وقائد الجيش المشير عبد الحكيم عامر. وفي ذكرى ميلاد لينين سنة 1970 أمر عبد الناصر بإصدار طابع بريدي باسمه ورسمه، وذلك بعد زيارته إلى موسكو مطلع ذلك العام يوم كان يعتمد على الجيش الروسي في حرب الاستنزاف ضد إسرائيل.

وفي سوريا صدر طابع مماثل في العام نفسه، علما أن تدخل الاتحاد السوفياتي في شؤون المنطقة جاء بعد وفاة لينين في عهد خليفته جوزيف ستالين، وذلك في خواتيم الحرب العالمية الثانية.

مع ذلك، يبقى فلاديمير لينين من أكثر الشخصيات جدلاً وإلهاماً في القرن العشرين، إنه أقرب إلى نبي بالنسبة لأنصاره الكثيرين، وإلى شيطان بالنسبة لأعدائه، الكثيرين أيضاً. كان قائداً ثورياً ومنظراً ماركسيا من طراز رفيع، ألهم الملايين في حياته وبعد رحيله. اعتنق الماركسية الثورية بعد إعدام شقيقه من قبل القيصر سنة 1887، وطُرِد من الجامعة لمشاركته في مظاهرة مناهضة للحكم. عاش مدة في سانت بطرسبرغ، واعتقل ونفي إلى سيبيريا قبل عودته إلى موسكو في أعقاب ثورة عام 1917 ليسهم إسهاماً كبيراً في الثورة المضادة التي أقصت الحكم الذي خلع القيصر مباشرة، وثبت الحكم الشيوعي في البلاد.

 

في سوريا، ألهمت الثورة البلشفية عدداً كبيراً من اليساريين والعلمانيين، مع جمع من السيدات الطموحات، وطلاب المدارس والجامعات من الأرياف، والطبقات الوسطى في المدن الكبرى

 

 

لينين والعرب

لم يكن الوطن العربي ضمن اهتمامات فلاديمير لينين، ولم يعطِهِ أي اهتمام يُذكر باستثناء دعوته إلى تحرير شعوبه من هيمنة الدول الأوروبية. بعد مدة وجيزة من تسلمه الحكم، وصلت رسالة من الزعيم السوري إبراهيم هنانو، الذي كان يقود ثورة مسلحة ضد الاحتلال الفرنسي في بلاده، طلب فيها معونة عسكرية من السوفيات.

ظن هنانو أن محاربة الفرنسيين ستروق للينين، ولكن الأخير رفض الاستجابة لطلبه، علماً أنه عاد وزود كمال أتاتورك بالسلاح سنة 1921، عبارة عن 60 ألف بندقية، و12 مدفعاً ثقيلاً، ومعها 10 ملايين روبل.

في سوريا، ألهمت الثورة البلشفية عدداً كبيراً من اليساريين والعلمانيين، مع جمع من السيدات الطموحات، وطلاب المدارس والجامعات من الأرياف، والطبقات الوسطى في المدن الكبرى. أعجبوا بمنعه المبكر للكتب الدينية، ومحاربته لنفوذ الكنائس، ومطاردته للكهنة ورجال الدين، نفياً واعتقالاً.

أما الطبقة السياسية الحاكمة في دمشق فقد كان لها رأي مختلف في زعيم “البلشفيك” ودعوته لثورة عمالية عالمية، وقد ظهر ذلك في افتتاحية جريدة “العاصمة” الحكومية يوم 19 أغسطس/آب 1919 التي كان يرأس تحريرها الداعية الإسلامي محب الدين الخطيب:

لا يسعنا نحن المقيمين في هذا القطر، البعيدين عن روسيا، أن نحكم على الحركة البلشفية إلا بما يأتينا من أخبار، سواء مما يقوله الروس أنفسهم، أو ما يكتبه الأوروبيون الذين عادوا من روسيا البلشفية. فإذا صدقنا هذه الشهادات، وليس عندنا سواها مما يستعان به، فإن البلشفية من أكبر آفات العمران، وشر ما تبتلى به الشعوب. إن روسيا اليوم باتت فريسة للفوضى والجوع، وإنها شهدت من الظلم والاستبداد والقهر ما يجعل من أهلها يترحمون على حكم القيصر.

 

فرض لينين نظاماً إلحادياً على الدولة السوفياتية، إلا أنه سمح للمسلمين بممارسة شعائرهم الدينية في جمهورياتهم، وأبقى على المساجد فيها حتى إنه أعاد بعض المقتنيات الإسلامية إلى أوزبكستان السوفياتية، مثل مصحف عثمان بن عفان

 

لينين والإسلام

ما وصل إلى العرب عن لينين وما علق في أذهان مجتمعاته المحافظة أنه رجل مُلحد يريد سحق الأديان كلها واجتثاثها من بلاده الشاسعة. صحيح أنه شن حرباً شعواء ضد الكنيسة الأرثوذوكسية الشرقية إلا أنه قرر التعامل مع مسلمي الاتحاد السوفياتي بالحسنى لأنهم كانوا مضطهدين في العهد البائد، من القيصر نفسه، ومن أجهزته الأمنية، ومن الكنيسة. وهذا ما يُفسر ترحيبهم به، وتأييدهم لثورته في بداياتها، وبعد أسابيع قليلة من نجاحها أصدر لينين بياناً إلى “العمال المسلمين في روسيا والشرق” يوم 20 ديسمبر/كانون الأول 1917 جاء فيه:

أيها المسلمون في روسيا، جميعكم دُمرت مساجدكم ودور عبادتكم، وداس قياصرة روسيا ومضطهدوها معتقداتكم وعاداتكم… إن معتقداتكم وممارساتكم ومؤسساتكم الثقافية حرة وغير قابلة للانتهاك من الآن. اعلموا أن حقوقكم مثل حقوق بقية أفراد شعب روسيا، تخضع لحماية الثورة العظيمة.

جعل لينين يوم الجمعة، بدلاً من الأحد، يوم عطلة في الجمهوريات الروسية ذات الغالبية المسلمة، وأدخل شيئاً من الشريعة الإسلامية في قوانينها، مع أنها كانت مخالفة من حيث العقيدة والممارسة مع الشيوعية الماركسية. لينين نفسه كان مشهراً إلحاده، ولكن هجومه على الكنيسة كان لأسباب سياسية ضمن حربه على كل مخلفات العهد البائد الذي كان يستمد قوته وشرعيته منها.

لقد رأى في الكنيسة تهديداً مباشراً لثورته، وهو ما لم ينطبق لا على الإسلام ولا على الجوامع حتى إنه وجد في مسلمي كازاخستان وأوزبكستان حلفاء حقيقيين، نظراً لعداوتهم التاريخية مع القيصر.

صحيح أنه فرض نظاماً إلحادياً على الدولة السوفياتية، إلا أنه سمح للمسلمين بممارسة شعائرهم الدينية في جمهورياتهم، وأبقى على المساجد فيها حتى إنه أعاد بعض المقتنيات الإسلامية إلى أوزبكستان السوفياتية، مثل مصحف عثمان بن عفان. ولكن المسلمين بدأوا يشعرون بقساوة عهده بعد منعه المساجد من تملك الأراضي، ومنها المقابر الإسلامية، بناء على قانون صادر في 23 يناير/كانون الثاني 1918. ومُنِعوا من جمع مال الزكاة، ما أفقر المؤسسات الدينية، وأفلس خزائنها، وأدى إلى ترهل كبير في جوامعها، ما جعل مسلمي الجمهوريات السوفياتية من الفقراء، يعيشون بفقر أقسى وأبشع من الفقر الذي شهدوه في عهد القيصر.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *