لبنان… خمسة رؤساء في سنة واحدة
سامي مروان مبيّض (المجلة، 23 تشرين الثاني 2023)
افتتح العام 1943 بسيل من برقيات التهنئة البروتوكولية التي وصلت إلى مقر رئيس الجمهورية اللبنانية ألفريد نقاش بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية. لم يكن نقاش يعلم، وهو المعين من قبل سلطة الانتداب الحاكمة، أن ولايته قاربت على الانتهاء وأن أربعة رؤساء سيخلفونه في الحكم حتى نهاية ذلك العام. خمسة رؤساء في سنة واحدة. أما اليوم وبعد مرور ثمانية عقود يُعاني لبنان من فراغ رئاسي كبير وشغور كرسي الحكم في قصر بعبدا منذ نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر/تشرين الأول 2022. جرى هذا التداول السلمي للسلطة قبل ثمانين سنة، ويُصادف الذكرى الثمانين أيضا لاستقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943.
من ألفريد نقاش إلى بشارة الخوري (يناير– سبتمبر 1943)
لم تكن الرئاسة اللبنانية يومها حكراً على المسيحيين الموارنة وقد تولّتها في فترة الانتداب شخصيات أرثوذوكسية وبروتستانتية وترشح لها الزعيم الطرابلسي المسلم الشيخ محمد الجسر سنة 1936، دون أن ينجح. بعد ألفريد نقاش، عُين المحامي البروتستانتي أيوب ثابت رئيساً للدولة في 18 مارس/آذار 1943 وحكم البلاد 145 يوماً وضع فيها مسودة قانون انتخابات قسّم من خلاله أعضاء المجلس النيابي على الشكل التالي: 32 مسيحياً و22 مسلماً، مع إعطاء المغتربين، وكان عددهم قرابة 160 ألفاً (معظمهم من المسيحيين) حق المشاركة في الانتخابات التشريعية. رُفض مشروعه من قبل المسلمين كافة واستقال ثابت من منصبه في 22 يوليو/تموز 1943 ليخلفه المحامي الأرثوذوكسي بيترو طراد، الرئيس الثالث سنة 1943.
بين الخوري وإده
عدّل الرئيس طراد قانون الانتخاب وجعل المجلس النيابي 55 عضواً (30 مسيحياً و25 مسلماً) مع إلغاء حق المغتربين في التصويت بحجة أنهم لا يدفعون ضرائب في لبنان. جرت في عهده الانتخابات النيابية بين مرشح فرنسا إميل إده، ومرشح الكتلة الدستورية الشيخ بشارة الخوري، فاز فيها الأخير وانتُخب رئيسا للجمهورية في 21 سبتمبر/أيلول 1943. كان الخوري محامياً قديماً من الطبقة المسيحية الوسطى، نُفي إلى مصر في الحرب العالمية الأولى وعاد ليصبح رئيساً لثلاث حكومات في زمن الانتداب ويؤسس الكتلة الدستورية الداعية إلى استقلال لبنان وانخراطه مع محيطه العربي. أما إميل إده الذي كان رئيساً للجمهورية سنة 1936، فكان يؤمن بلبنان وطناً قومياً للمسيحيين ويعدّه مختلفاً من الناحية الحضارية والثقافية عن بقية الدول العربية.
خاض بشارة الخوري انتخابات الرئاسة ضد إميل إده للمرة الأولى سنة 1936 وفاز عليه الأخير بفارق صوت واحد
خاض بشارة الخوري انتخابات الرئاسة ضد إميل إده للمرة الأولى سنة 1936 وفاز عليه الأخير بفارق صوت واحد. نُقل الكثير عن تعصّب إده للمسيحيين، وقوله ذات يوم: “لبنان بلد مسيحي، فليذهب المسلمون إلى مكة،” لا يوجد دليل تاريخي مثبت على هذا الكلام المتناقل شفهيا بين اللبنانيين، ولكنه يعكس تفكير إميل إده الذي اقترح على الفرنسيين أثناء رئاسته الأولى إعطاء مسلمي طرابلس – وكان عددهم 55 ألفاً – الجنسية السورية، بهدف التخلّص منهم، مع منح جنوب لبنان حكماً ذاتياً على طريقة جبال العلويين والدروز في سورية، للتخلّص أيضاً من 140 ألف مسلم فيه، بين سني وشيعي. وكانت هذه السياسات المتطرفة قد جعلت منه عدواً تلقائياً للمسلمين في لبنان، الذين وقفوا مع بشارة الخوري وساهموا في فوزه على إده وانتخابه رئيساً سنة 1943.
الصدام مع فرنسا
أهم من جاء في العهد الجديد هو الميثاق الوطني غير المدون، بين الرئيس الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح. وضع الميثاق كقاعدة وطنية تكفل للمسيحيين مطالبهم وتحقق للمسلمين حقوقهم، مع إلزام لبنان بمصادقة الدول العربية. أعطيت رئاسة الجمهورية للموارنة، والحكومة للمسلمين السنة والمجلس النيابي للمسلمين الشيعة (علماً أن خرقاً حدث سنة 1947 يوم انتخاب حبيب أبي شهلا من الروم الأرثوذكس رئيساً للمجلس النيابي، وسنة 1988 يوم تعيين ميشال عون الماروني المسيحي رئيساً للحكومة).
بعد أقل من شهرين على انتخابه، دخل بشارة الخوري في صدام مباشر مع الفرنسيين، بعد مصادقته على تعديلات دستورية ألغت دور فرنسا في التشريع وأعادت الاعتبار للغة العربية
بعد أقل من شهرين على انتخابه، دخل بشارة الخوري في صدام مباشر مع الفرنسيين، بعد مصادقته على تعديلات دستورية ألغت دور فرنسا في التشريع اللبناني وأعادت الاعتبار للغة العربية لغة رسمية للدولة. طُرح يومها تعديل العلم اللبناني الذي كان إميل إده، ومعه الرئيسان السابقان ألفريد نقاش وأيوب ثابت، قد طالبوا بجعله شبيها بالعلم الفرنسي، بدلاً من العلم اللبناني الذي كان أثناء الانتداب مكوناً من العلم الفرنسي نفسه والأرزة الخضراء في وسطه.
اقترح إده ورفاقه من الرؤساء السابقين تغيير اتجاه الألوان بحيث تصبح أفقية لا عمودية وفي وسطها الأرزة، بينما شدد الخوري والصلح على أن يكون علم لبنان علماً استقلالياً ليس فيه أية إشارة إلى فرنسا. وافقت أكثرية أعضاء المجلس على المقترح، باستثناء 11 نائباً على رأسهم إده الذي انسحب من الجلسة وقال بالفرنسية، بحسب ما جاء في مذكرات رئيس الحكومة صائب سلام: “هذه مزبلة لا أقبل أن أكون فيها.”
اعتقال رئيس الجمهورية
تبنى البرلمان اللبناني التعديلات وصادق عليها بشارة الخوري، فردت فرنسا باعتقاله في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1943، مع رياض الصلح وعدد من الوزراء، كان من بينهم وزير الداخلية كميل شمعون، ووزير الخارجية حبيب أبي شهلا، ووزير التجارة عادل عسيران. سيق الخوري من منزله مهاناً، واعتقل الصلح من داره في منطقة رأس النبع، وعُيّن إميل إده رئيساً للدولة والحكومة معاً، ليكون هو الرئيس الخامس للبنان في غضون تسعة أشهر. لكن مظاهرات عارمة منعته من تشكيل الحكومة، سقط بموجبها 18 قتيلاً، وقاطعه معظم أعضاء الطبقة السياسية وعدّوا تعيينه بالإكراه تعدياً على الشرعية الدستورية.
توجه بعض النواب إلى المجلس النيابي المقفل بالحديد وتمكنوا من فتحه بالقوة والدخول إلى قاعته الرئيسة تحت أزيز الرصاص وفيه عقد سبعة منهم – برئاسة رئيس البرلمان صبري حمادة – اجتماعاً استثنائياً ورسموا علم الاستقلال (الحالي) بتلوين بدائي، وقاموا بتهريبه خارج المبنى بواسطة أحد مفوضي الشرطة – واسمه حليم غرغور – الذي خبأ العلم في ملابسه الداخلية. تعهد نائب البقاع هنري فرعون بالحصول على موافقة المسيحيين عليه وتعهد بدوره صائب سلام، نائب بيروت، بفعل الشيء ذاته مع المسلمين. في نهاية المطاف وأمام الغليان الشعبي الكبير والضغوط البريطانية، ما كان أمام فرنسا إلا إطلاق سراح بشارة الخوري ورفاقه من سجنهم في قلعة راشيا في البقاع الجنوبي يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943 واعتبر هذا التاريخ عيداً رسمياً ووطنياً لاستقلال لبنان.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!