كيف نسمّي الحروب … وماذا عن لبنان؟
سامي مروان مبيّض (المجلة، 1 تشرين الثاني 2024)
بعد هزيمة الدول العربية في حرب يونيو/حزيران 1967، خطب الرئيس جمال عبد الناصر وقال: “لا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة،” وهي العبارة التي استلهم منها الإعلاميون والسياسيون والمؤرخون العرب مصطلح النكسة للتعبير عمّا حلّ بدولهم سنة 1967. وفي إسرائيل يسمونها “حرب الأيام الستة” لأنهم تمكنوا، فيستة أيام، من تدمير جيوش مصر وسورية والأردن، واحتلال كل من سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس الشرقية.
خالف عبد الناصر يومها العرف المُتبع في تسمية الحروب، بحيث يتم الجمع بين الطرف المنتصر والطرف المهزوم، مثل الحرب الروسية – العثمانية (1877-1878) والحرب الروسية – اليابانية (1904-1905)، وفي الحرب التي سبقت النكسة اختار الرئيس المصري عبارة “العدوان الثلاثي” للتعبير عن حرب السويس، والتي شنّت في أعقاب تأميم قناة السويس سنة 1956. ولكنه لم يدّعِأنه انتصر سنة 1967 كما فعل صدام حسين إبان هزيمته في تحرير الكويت سنة 1991، يوم قزّم تلك الحرب إلى “معركة،” ثم عاد لتضخيمها وأطلق عليها اسم “أمّ المعارك.”
من النكبة إلى النكسة
تأتي أسماء الحروب عادة بالتكرار والممارسة، وقد تتغير مع الوقت، وتختلف من شعب إلى آخر. الإسرائيليون مثلاً يسمون حرب فلسطين الأولى “حرب الاستقلال،” وفي وطننا العربي يطلقون عليها اسم “النكبة،” وهي عبارة مقتضبة وضعها المؤرخ السوري قسطنطين زريق عندما كان رئيساً لجامعة دمشق، يوم ألّف كتاباً بعنوان معنى النكبة. أما ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء في إسرائيل، فقد اختار لتلك الحرب اسم “حرب النشوء” (War of Arisesness)، ولكن المؤرخين الإسرائيليين فضلوا عبارة “حرب الاستقلال” لدلالتها وسهولتها.
نحو 80 في المئة من الشباب الأوروبي المولود عام 1923 لم يُكتب لهم الحياة بعد عام 1945
تختلف التسميات أيضاً حول حرب أكتوبر/تشرين الأول سنة 1973، فالمصريون يطلقون عليها اسم “حرب العاشر من رمضان” والسوريون يسمونها “حرب تشرين التحريرية،” بينما يصفها الإسرائيليون بحرب “يوم كيبور” أو “يوم الغفران،” لأن مصر وسورية أعلنتا الحرب في يوم عطلة اليهود. وتكاد تكون الانتفاضتان الأولى والثانية وحدهما المتفق على تسميتهما بين العرب وإسرائيل، لدرجة أن كلمة “انتفاضة” باتت تكتب باللغة الإنجليزية (intifadah) وكذلك في الصحف العالمية الكبرى، دون الحاجة لأي شرح أو تفسير.
نساء وأطفال فلسطينيون يسيرون باتجاه طولكرم بعد تهجيرهم من حيفا عام 1948
حروب السنوات الطويلة
هناك بعض الحروب سمّيت باسم أمكنة القتال، مثل حرب القرم (1853-1856) والحرب الكورية (1950-1953)، والحرب الإيرانية – العراقية (1980-1988)، وحروب أخرى سمّيت بحسب مدّتها، مثل حرب الأيام الستة، وحرب الثلاثين عاماً في أوروبا (1618-1948)، وحرب الثمانين عاماً (1566-1648) التي شهدت انتفاضة هولندا ولوكسمبورغ وبلجيكا ضد إسبانيا، وصولاً إلى حرب المئة عام بين فرنسا وإنكلترا في العصور الوسطى. ولعل أجمل تسمية كانت للحرب الأهلية بين عائلتين متنازعتين على العرش البريطاني ما بين 1455-1485، حيث اتخذ كل منهما شعار الوردتين (الأبيض والأحمر)، ومنها استلهم الكاتب الشهير وليم شكسبير اسم هذه الحرب وأطلق عليها اسم حرب الوردتين (War of the Roses) في الفصل الأول من مسرحية هنري السادس.
الحربان العالميتان
الحرب العالمية الأولى مثلاً نالت صفتها “العالمية” بسبب مشاركة 32 دولة فيها وسقوط 17 مليون قتيل و20 مليون جريح، والحرب العالمية الثانية وصلت إلى مرتبة “العالمية” بعد مشاركة 102 دولة بشكل أو بآخر، وسقوط نحو 60 مليون قتيل، بينهم 20 مليوناً من العسكر و40 مليوناً من المدنيين. كما أن نحو 80 في المئة من الشباب الأوروبي المولود عام 1923 لم يُكتب لهم الحياة بعد عام 1945، حيث مسحت الحرب العالمية الثانية جيلاً كاملاً من الشباب في كل من الاتحاد السوفياتي وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية.
أول من استعمل عبارة “الحرب العالمية الثانية” كانت مجلة “تايم” الأميركية في عددها الصادر في يوليو 1939، وذلك قبل غزو أدولف هتلر لبولندا
عند بدء الحرب العالمية الأولى في صيف عام 1914 لم يكن أحد يطلق عليها اسمها المتداول اليوم، بل كانت تسمى “الحرب العظمى،” أو “الحرب الكبرى” (The Great War)، وكان الظن أنها ستنتهي مع حلول أعياد الميلاد نهاية عام 1914. وعندما امتدت وتوسّعت، حاول بعض عقلاء أوروبا تسميتها “الحرب التي سوف تنهي كل الحروب”، وسماهاآخرون “الحرب الأوروبية” لأنها لم تأخذ صفة “العالمية” إلا بعد تدخل الولايات المتحدة إلى جانب الحلفاء في أبريل/نيسان 1917، ولم توصف بالأولى إلا بعد اندلاع الثانية في سبتمبر/أيلول 1939.
تسمية الولايات المتحدة لحروبها
أول من استعملعبارة الحرب العالمية الثانية كانت مجلة “تايم” الأميركية في عددها الصادر في يوليو 1939، وذلك قبل غزو أدولف هتلر لبولندا، محذرة مما يمكن أن يحدث في العالم لو سُمح له بالتوسع واحتلال بقية أوروبا. وفي عام 1941 استعمل الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عبارة الحرب العالمية الثانية في أحد خطاباته، لكن يبدو أنه لم يكن مقتنعاً بهذا الاسم، فطلب إلى الشعب الأميركي أن يُقدم مقترحات بديلة لتعتمد رسمياً في الكتب المدرسية والإعلام. على مدى ثلاثة أسابيع، وصل قرابة خمسة عشر ألف مقترح إلى صندوق بريد وزارة الدفاع الأميركية، تراوحت بين “الحرب من أجل الحضارة،” و”حرب الدفاع عن الإنسانية،” و”حربنا على العبودية،” و”حرب البقاء.”
في صيف عام 2006، أطلق “حزب الله” تسمية “حرب تموز” على حربه مع إسرائيل في عهد إيهود أولمرت، وتمكن من تثبيت هذه التسمية لأنه لم يُهزم فيها
أما عن الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، فكان صاحب التسمية هو الكاتب البريطاني جورج أورويل في مقال نشره سنة 1945، قبل أن يظهر الخلاف العميق بين الدولتين، وعندما كانتا لا تزالان تحاربان في خندق واحد ضد النازية. لم يكترث الإعلام لهذه التسمية في حينها، ولم تعتمد التسمية إلا بعد استعمالهامن قبل أحد مستشاري الرئيس الأميركي هاري ترومان سنة 1947.
ماذا عن لبنان؟
أما في لبنان، الذي يمر اليوم بحرب مفتوحة مع إسرائيل لم يطلق عليها أحد حتى الآن أية تسمية. معظم الناس يعدونها امتداداً لحرب إسرائيل على قطاع عزة منذ 7 أكتوبر 2023، وهي التي أطلق عليها الجيش الإسرائيلي اسم “عملية السيوف الحديدية.” في المقلب الآخر يسمونها باختصار حرب غزة والفلسطينيون يسمونها “حرب طوفان الأقصى.” ولو قبلنا بهذه التسمية، فلا يمكن جعل الأحداث اللبنانية الأخيرة مجرد ملحق لها لأنها أصبحت حرباً بحد ذاتها بكل ما في كلمة “حرب” من معنى، وهي مستقلة عن حرب غزة حتى لو كانت بدايتها بدافع “توحيد ساحات المعركة” والضغط على إسرائيل من قبل حزب الله لصالح حلفائه في حركة حماس.
تتصاعد ألسنة اللهب والدخان جراء غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت، لبنان، الأحد 6 أكتوبر 2024.
في صيف عام 2006، أطلق حزب الله تسمية حرب تموز على حربه مع إسرائيل في عهد إيهود أولمرت، وتمكن من تثبيت هذه التسمية لأنه لم يهزم فيها لأن إسرائيل لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة، ومنها تحرير جنودها المحتجزين والعودة بلبنان إلى “العصر الحجري.” أما اليوم، فمن سيسمي الحرب اللبنانية؟ هل ستكون الغلبة فيها لإسرائيل أم لحزب الله؟ لا أحد يعرف الجواب الحتمي اليوم، بانتظار نهاية المعارك التي قد تطول إلى ما بعد الانتخابات الأميركية المقبلة، ولكن يبقى السؤال: هل تكون هذه الحرب آخر حرب ضروس في المنطقة، وبذلك تصبح التسمية الأنسب لها: “الحرب الأخيرة”؟
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!