في ذكرى اغتياله… ماذا قال غاندي عن فلسطين والإسلام؟
سامي مروان مبيّض (المجلة، 20 كانون الثاني 2024)
في تمام الساعة الخامسة وسبع عشرة دقيقة من عصر يوم 30 يناير/كانون الثاني 1948، اغتيل المهاتما غاندي بثلاث رصاصات وهو في طريقه إلى الصلاة. توفي فوراً عن عمر ناهز 78 عاماً. لم يحاول القاتل الهرب، كان من الهندوس المتعصبين، وقد أُلقي القبض عليه، وجرت محاكمته قبل إعدامه شنقاً في نوفمبر/تشرين الثاني 1949. قال بكل صراحة إنه قتل غاندي بسبب التنازلات الكبيرة التي قدمها “المهاتما” للمسلمين عند تقسيم الهند بعد نيل استقلالها، يوم وُلِدت دولة باكستان المسلمة من رَحِم الدولة الهندية ذات الغالبية الهندوسية. كان غاندي مؤمناً بالتعددية الدينية، وقد آلمه كثيراً التعصب والعنف الديني الذي اندلع في طول البلاد وعرضها، وأطلق سلسلة من الإضرابات عن الطعام تعبيراً عن رفضه واحتجاجه، كان آخرها في 12 يناير 1948، قبل أسبوعين من مقتله.
جلسة من محاكمة المشاركين في اغتيال غاندي في “الحصن الاحمر” في دلهي في 27 مايو 1948
إلى اليوم يبقى الرجل أحد عمالقة القرن العشرين، والأكثر إلهاما في سياسة “اللاعنف” الشهيرة التي تبناها ونادى بها طيلة حياته، وباتت منذ ذلك اليوم مرتبطة باسمه. للوهلة الأولى قد تبدو حياة المهاتما غاندي بعيدة عن منطقتنا العربية كونه لم يزرها في حياته، ولم تكن له أية علاقة مباشرة بقادتها ومشاكلها. ولكن بالعودة إلى مسيرته النضالية الأسطورية، نجد أن ارتباطاً قد جمعه بالمنطقة منذ أن أعلن الرئيس التركي كمال أتاتورك قراره الشهير بإلغاء الخلافة الإسلامية في شهر مارس/آذار 1924.
غاندي والخلافة الإسلامية
بموجب قرار الرئيس التركي، نُقِلت صلاحيات الخليفة، مع بعض مهامه، وما تبقى له من موازنة، إلى البرلمان التركي، وقد سوغ أتاتورك قراره بالقول: “يجب أن أوضح أن أولئك الذين يسعون إلى إبقاء المسلمين منغمسين في وَهْم الخلافة هُم أعداء المسلمين.”
لن يتسامح المسلمون الهنود مع أي تأثير، مباشر كان أم غير مباشر، على الأماكن المقدسة الإسلامية
صُعِق غاندي من هذا القرار، وأعرب عن رفضه التام لما جاء فيه، علما أنه لم يكن مسلماً، ولكنه كان ينظر إلى الخلافة الإسلامية بوصفها رمزاً لقوة المسلمين ووحدتهم. بعد الحرب العالمية الأولى هُزِم الجيش العثماني الجرار، واحتلت جيوش الحلفاء عاصمة الخلافة. فرضت بريطانيا وفرنسا إملاءاتهما على الخليفة، وأجبرتاه على التنازل عن جزء من الأناضول، وسورية كلها، وإطلاق سراح أسرى الدول الأوروبية دون أي مقابل. وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول 1924، غادر آخر خلفاء بني عثمان، عبد المجيد الثاني عاصمته، وركب سفينة بريطانية نقلته إلى مالطة، مع تعليمات صارمة بأن لا يعود إلى تركيا أبدا.
ظهرت في الهند حركة سياسية للدفاع عن الخلافة الإسلامية سنة 1919، أسهمت إسهاماً كبيراً في توحيد الهندوس والمسلمين، سواء في الدفاع عن الخلافة أو في معارضة البريطانيين في بلادهم. وقد أعطاها غاندي زخماً مضاعفاً بموقفه المؤيد لها، وعمله المُشترَك مع قادة الهند المسلمين، مثل شوكت علي، ومحمد علي جوهر. كان غاندي بحاجة إلى هؤلاء في نضاله ضد الإنكليز، بعد أن وقف مع الدولة العثمانية التي حاربت بريطانيا في الحرب العظمى.
من جنازة المهاتما غاندي التي شارك فيها حوالى المليون شخص قرب نيودلهي في 10 فبراير 1948
عندما ظهرت حركة الخلافة الهندية إلى العلن كان غاندي على مشارف الخمسين من عمره، وقد ساهمت مساندته لمطالب المسلمين في توسيع شعبيته بين مسلمي الهند، ولكنها أغضبت عدداً كبيراً من الهندوس المتطرفين. وفي سنة 1924، دُعي غاندي إلى مناصرة جمعية الخلافة التي ظهرت في دمشق، بقيادة الأمير سعيد الجزائري، حفيد المجاهد الأمير عبد القادر الجزائري، الذي حارب الاحتلال الفرنسي في بلاده في القرن التاسع عشر. راسلَ الأمير سعيد المهاتما أملاً في الحصول على دعم منه لترشيحه – أي الأمير سعيد – ليكون الخليفة المقبل للأمة الإسلامية، نظرا لكونه قرشي من آل البيت. رد غاندي برسالة لبقة، معرباً عن دعمه لفكرة الخلافة من حيث المبدأ، دون إبداء رأي صريح حول طموحات الأمير سعيد، التي كان ينافسه فيها كل من فؤاد الأول ملك مصر، والشريف حسين بن علي ملك الحجاز وقائد الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين.
المسلمون يطالبون بفلسطين، وعليهم الاحتفاظ بوصايتها، لكن هذا لا يعني أن اليهود والمسيحيين لا يمكنهم الذهاب إلى فلسطين بحرية
وفي مارس/آذار 1921، أدلى غاندي بحديث لجريدة Bombay Chronicle جاء فيه:
إن وجود الإسلام يتطلب الإلغاء التام لنظام الانتداب البريطاني والفرنسي. لن يتسامح المسلمون الهنود مع أي تأثير، مباشر كان أم غير مباشر، على الأماكن المقدسة الإسلامية. المسلمون يطالبون بفلسطين، وعليهم الاحتفاظ بوصايتها، وصية النبي، لكن هذا لا يعني أن اليهود والمسيحيين لا يمكنهم الذهاب إلى فلسطين بحرية أو حتى الإقامة فيها والتملك. ما لا يستطيع غير المسلمين فعله هو الحصول على ولاية سيادية في فلسطين، ولا يمكن لليهود أن يحصلوا على حقوق سيادية في مكان كانت تسيطر عليه القوى الإسلامية لقرون عدة، بموجب حقوق الغزو الديني. ولم يسفك جنود المسلمين دماءهم من أجل إخراج فلسطين من سيطرة المسلمين.
غاندي وفلسطين
معارضة غاندي للاحتلال البريطاني في بلاده جعلته حليفاً طبيعياً للشعب الفلسطيني، ومعارضاً للمطامع الصهيونية في فلسطين. جاء هذا الموقف في مرحلة متقدمة من حياته، لأن جهوده كانت وحتى مطلع ثلاثينات القرن العشرين منصبة على استقلال الهند، ونصرة الفقراء، ودعم صناعات الغزل اليدوي، ومبدأ اللاعنف في وجه الاحتلال. يهود الهند كانوا قلة – أقل من 25 ألفاً سنة 1930 – يتمركزون في مدينة بومباي، وكانوا بعيدين عن السياسة، وسعداء بحياتهم في الهند، ولا يرغبون في الانتقال للعيش في فلسطين. حاولت الحركة الصهيونية العالمية التواصل مع غاندي، ولكنه بقي مصراً على موقفه، ونصح رئيسها حاييم وايزمان بأن ينظر إلى القدس “من فوق، بوصفها مكاناً روحانياً،” لا وطناً أبدياً لليهود. وعندما زار لندن لحضور طاولة مستديرة عن مستقبل الهند سنة 1931 تحدث غاندي مع الصحيفة الصهيونية The Jewish Chronicle وقال:
الصهيونية تعني احتلال فلسطين، وهي لا تجذبني. أستطيع تفهم شوق اليهود للعودة إلى فلسطين، ويمكنهم أن يفعلوا ذلك دون مساعدة حراب البنادق، سواء كانت يهودية أم بريطانية. في هذه الحالة سيذهبون إلى فلسطين بسلام وبصداقة تامة مع العرب.
غاندي مع رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو أثناء اجتماع للجنة “المؤتمر الهندي” في بومباي (مومباي)
وفي مطبوعته الدورية، كتب غاندي يوم 26 نوفمبر 1939: “فلسطين للعرب مثلماً بريطانيا للإنكليز، وفرنسا للفرنسيين.” بعد ثماني سنوات، وقف غاندي مع تلميذه الوفي وخليفته، رئيس الحكومة الهندية جواهر لال نهرو، ضد قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947. كتب إليهما العالم اليهودي العالمي ألبيرت آينشتاين، قائلاً: إن اليهود كانوا “ضحايا التاريخ لقرون طويلة.” ونصح آينشتاين الهند بالتفكير ملياً قبل التصويت ضد “حلم اليهود في أرض الميعاد.” ورد نهرو بحزم، معرباً عن تعاطفه الكبير مع معاناة اليهود واضطهادهم في الحرب العالمية الثانية. ولكنه أضاف: إن القرارات الوطنية هي “وبكل أسف، أنانية.” وظل هو وغاندي حتى آخر رمق مُصممَينِ على قرارهما المشترك برفض تقسيم فلسطين، ومقاسمتها بين اليهود والعرب، تحت أية ذريعة كانت.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!