في الذكرى الثمانين لرحيل أسمهان… ماذا عن دورها السياسي في الحرب العالمية الثانية؟

سامي مروان مبيّض (رصيف 22، 14 تموز 2024)

في مثل هذا اليوم قبل 80 سنة، توفّيت النجمة السورية أسمهان، إثر حادث غريب وهي في طريقها إلى استراحة في منطقة رأس البرّ المصرية. ماتت معها صديقتها ومديرة أعمالها ماري قلادة، عندما سقطت السيارة التي كانت تقلّهما في ترعة الساحل في مدينة طلخا المصرية.

كانت في ريعان شبابها، إذ لم تتجاوز الثانية والثلاثين من عمرها حينها، وكانت في أوج شهرتها بعد أن عادت إلى الغناء والتمثيل في مصر، وهي تصوّر المشاهد الأخيرة في فيلم غرام وانتقام، مع المخرج يوسف وهبي، الذي أدّت فيه أشهر أغنياتها ليالي الأنس في فيينا.

كُتب عن حياتها القصيرة الكثير، وكُتب أكثر عن ظروف مماتها، والحادث الذي ظنّ البعض أنه مفتعل. اختلفت الأقاويل في موت أسمهان، فقال البعض إنّ الإنكليز تخلّصوا منها بعد تهديدها إياهم بإفشاء أسرارهم العسكرية إلى ألمانيا النازية، وقال آخرون إنّ أم كلثوم تخلّصت منها لأنها كانت تنازعها على نجومية مصر والعالم العربي.

الرواية الثانية من نسخ خيال الصحافيين والكتّاب، ولا صحّة لها إطلاقاً. أمّا الفرضية الأولى، فهي أيضاً مستبعدة لأنّ الأميرة آمال الأطرش، أي أسمهان، لم تكن تملك أسراراً خطيرة لا يعرفها الألمان، وبذلك، من غير المعقول أن تكون تصفيتها مدبّرة من قبلهم. لن ندخل في مسيرة أسمهان الفنية، ولا في ظروف وفاتها، بل في دورها السياسي وعلاقتها بالطبقة السياسية الحاكمة في سورية.

من الماء إلى الماء

وُلدت الأمير آمال الأطرش، على متن سفينة في البحر، يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1912، عندما كانت والدتها اللبنانية علياء المنذر، عائدة من إزمير إلى بيروت، وقيل إنّ عرّافةً قالت لها لاحقاً إنها “وُلدت في الماء، وستموت في الماء.”

هاجرت أسرتها إلى القاهرة، وهي في الثالثة من عمرها، بعد تلقّي دعوة من الزعيم المصري سعد زغلول، رئيس حزب الوفد وزوجته صفيّة. كانت أميرة من سلالة آل الأطرش، الذين عُرفوا بدورهم التاريخي في مقارعة الانتداب الفرنسي في سورية، وكان أشهرهم سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى سنة 1925.

أسمهان والأمير حسن الأطرش سنة 1933.

أسمهان والأمير حسن الأطرش سنة 1933.

زوجة وزير دفاع سورية

بعد انطلاق مسيرتها الفنية في مصر، ونجاحاتها المبكرة، عادت إلى سورية وتزوجت من ابن عمها الأمير حسن الأطرش سنة 1933، حاكم جبل الدروز الذي اشترط عليها اعتزال الغناء، فقبلت على مضض. وكانت لها شروط مماثلة حققها الأمير فوراً: أن تكون إقامتها الصيفية في دمشق، والشتوية في القاهرة، وأن لا يلزمها الأمير بارتداء الحجاب أو حطّة الرأس التقليدية. استمرّ الزواج ست سنوات، أنجبت خلالها ابنتها الوحيدة كاميليا.

بعد طلاقها من الأمير حسن، عادت إلى القاهرة للغناء وتزوّجت من المخرج المصري أحمد بدرخان. وبعد انفصالها عن الأخير، عادت ثانيةً للزواج من الأمير حسن في تموز/يوليو 1941، وأشيع حينها أنّها قبلت العودة إليه ضمن خطّة محكمة رسمها الإنكليز لاقتحام سورية وتحريرها من قوات فيشي الموالية للزعيم النازي أدولف هتلر.

قيل إنّ الزواج الثاني من الأمير جاء ضمن الخطّة البريطانية، لتسهيل عبور القوات الإنكليزية إلى الأراضي السورية عبر جنوب البلاد، وقيل إنّها تقاضت على هذه المهمّة 40 ألف جنيه إسترليني. يبقى هذا الكلام تكهّناً ولا يوجد دليل يثبته لا في الأرشيف الفرنسي ولا البريطاني. كان وزير بريطانيا المفوّض في سورية ولبنان السير إدوارد سبيرز، حاضراً في حفل زفافها الثاني من الأمير حسن، وقد كتب في مذكّراته:

أول مرة رأيت الأميرة فيها كانت في حفل زواجها من الأمير. كانت رائعة في ذلك المساء بملابس أوروبية، وعلمت أنها أجمل بكثير بالزي العربي. كانت بالنسبة لي واحدةً من أجمل النساء اللواتي رأيتهن في حياتي. كانت عيناها واسعتين زرقاوين بلون البحر… ومن الطبيعي جداً أنها كانت بحاجة إلى المال، وكانت تنفقه كما ينثر السحاب المطر.

أسمهان والأمير حسن الأطرش سنة 1942.

أسمهان والأمير حسن الأطرش سنة 1942.

دخولها عالم السياسة

زواجها الثاني من الأمير حسن، أدخلها عالم السياسة من أوسع أبوابه، ولم تهتمّ أسمهان بالأمر كثيراً، علماً أنها أصبحت من سيدات المجتمع السياسي بعد تعيين زوجها وزيراً للدفاع في حكومة الرئيس حسن الحكيم، يوم 10 آذار/مارس 1942، خلفاً لعمّه عبد الغفار باشا الأطرش، الذي توفّي.

وفي 18 نيسان/أبريل 1942، عُيّن الأمير حسن في الحقيبة نفسها في حكومة الرئيس حسني البرازي، وكان ذلك في عهد رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسني، وكان تعيينه في المرّتين فخرياً لأن سورية لم تكن تمتلك جيشاً في حينها، بعد أن حلّته فرنسا منذ احتلالها البلاد سنة 1920.

تعرّفت أسمهان إلى السياسيين السوريين الكبار، ومن ضمنهم وزير الخارجية فائز الخوري (شقيق فارس الخوري)، ونائب دمشق وراعي الفنون فخري البارودي، الذي كان معجباً بها كثيراً وينفجر غضباً عند سماع عبارة “المطربة المصرية أسمهان.” وكانت قبل ذلك على صلة طيبة بالزعيم الوطني السوري عبد الرحمن الشهبندر، المقيم في القاهرة، وحليف سلطان باشا الأطرش في الثورة السورية الكبرى، وهو الذي قُتل في دمشق سنة 1940.

ساهمت أسمهان في ترتيب الأمور لصالح بريطانيا في سورية، وسهّلت دخول قواتها مع قوات فرنسا الحرة بقيادة الجنرال شارل ديغول، لطرد فيشي في حزيران/يونيو 1941

ساهمت أسمهان في ترتيب الأمور لصالح بريطانيا في سورية، وسهّلت دخول قواتها مع قوات فرنسا الحرّة بقيادة الجنرال شارل ديغول، لطرد فيشي في حزيران/يونيو 1941. بحسب الروايات الشعبية المتناقلة شفهياً عبر الأجيال، أمر الإنكليز بتصفيتها عندما اكتشفوا أنها “عميلة مزدوجة،” تعمل أيضاً مع النازيين من خلال سفيرهم قي أنقرة، فرانز فون بابين.

يقول الوزير المفوّض سبيرز، في مذكراته، إنّها كانت تنوي البوح بما لديها من معلومات، ولكنّه لا يجزم بأنها فعلت ذلك، مُضيفاً أنه أصدر أمراً بمنعها من السفر إلى تركيا ووضعها قيد الإقامة شبه الجبرية في بيروت. أمّا في الأرشيف البريطاني، فلا شيء فيه يوحي بأنها كانت عميلة لا للإنكليز ولا للألمان، إذ لا يرِد اسمها إلا بشكل عابر في الوثائق الدبلوماسية والاستخباراتية، ودوماً من خلال زوجها وليس بشكل مستقل عنه.

تقول بعض المصادر إنّ الأمير حسن هو الذي سهّل دخول الحلفاء إلى سورية، وليس أسمهان، وقد كافأه الإنكليز بتعيينه وزيراً، ولكنّهم وفي تقاريرهم يقولون إنّ مساهمته الوحيدة كانت عدم اعتراضهم.

العلاقة مع الإنكليز

حضرت أسمهان مراسم استقبال شارل ديغول، في دمشق، في تموز/يوليو 1941، والتقت به مرّتين؛ في المرّة الأولى في العاصمة، وفي الثانية خلال زيارته جبل الدروز. وكانت الحكومة البريطانية تدفع لها إيجار منزلها الكبير في دمشق، مناصفةً مع الفرنسيين، بحسب ما قاله سبيرز في مذكّراته.

كانت الشائعات عن دور أسمهان السياسي بسبب إقامتها الدائمة في فندق أوريانت بالاس، مقابل محطة الحجاز وسط دمشق، حيث كان يقيم سبيرز مع زوجته وكل الضباط البريطانيين. وكانت الأميرة لا تتردد في طلب المساعدة منهم لقضاء حاجاتها، فنجد مثلاً أنها توسّلت لديهم لوضع حد لضابط أسترالي مقيم في الفندق نفسه، كان يعاكسها باستمرار ويعاكس كل من تقع عليهنّ عيناه من فتيات سورية.

وكانت دائمة الحضور في مجالس الإنكليز وحفلاتهم الخاصة، وقد وقع أحدهم، السر جان جاك أيفتس، في حبّها، ووصل إلى درجة الهيام بها. حتى سبيرز نفسه لم يبخل بمدحها والتغزّل بجمالها، وهذا ما قد يفسر تجاهل زوجته الليدي سبيرز، الكامل لها في مذكراتها. حتى اليوم يبقى موتها في 14 تموز/يوليو 1944 لغزاً كبيراً، وقد اختصره إدوارد سبيرز بجملة واحدة فقط: “فقد السائق سيطرته على السيارة، وسقطت في الماء. ومن الغريب جداً أنَ قدميه لم تتبلّلا”!

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *