غولدا مائير…الرجل في حكومة بن غوريون
سامي مروان مبيّض (المجلة، 6 تشرين الأول 2023)
كان من المفترض أن تحتفل إسرائيل بالذكرى الرابعة والخمسين لانتخاب غولدا مائير كأول وآخر امرأة تتسنّم رئاسة الوزراء في بلدها وأول رئيسة لحزب سياسي (حزب ماباي)، الذي أصبح اليوم حزب العمل وترأسه حالياً امرأة أخرى تدعى ميراف ميخائيلي. كانت مائير تُعرف باسم “المرأة الحديدية” في إسرائيل، وشبهها البعض بنظيرتها الهندية أنديرا غاندي، وقد تسلّمت إدارة البلاد من سنة 1969 ولغاية تنحيها عن الحكم في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
من أوكرانيا إلى الولايات المتحدة
ولدت غولدا مائير – أو غولدا مابوفيتش – لعائلة من اليهود الأوكرانيين في كييف يوم 8 مايو/أيار 1898، وهاجرت مع والدها الذي كان يعمل نجّاراً إلى الولايات المتحدة عام 1906. استقرت الأسرة في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن وتلقت مائير تعليمها في مدرسةٍ محلية تحمل اسمها الآن، وعملت بدوام جزئي في متجر، ثم في مكتبة عامة، وكانت تُدرّس في مدارس ابتدائية يهودية. نشطت في الحركة الصهيونية العمالية وتلقت دراستها في كلية المعلمين، التي تُعرف اليوم باسم جامعة ويسكونسن – ميلووكي).
في هذه الفترة من شبابها التقت غولدا بالرسام الاشتراكي الأمريكي موريس مائيرسون وتزوجته سنة 1917، وهو العام نفسه الذي صدر فيه وعد بلفور. انتقلت معه إلى فلسطين سنة 1921 كي يكونا قريبين من “أرض الميعاد،” واستقرا في كيبوتس مرج ابن عامر قبل انتقالهما إلى تل أبيب أولاً ثم إلى القدس. وفي عام 1928، انتُخبت أميناً عاماً لمجلس المرأة اليهودية العاملة في فلسطين، وانضمت إلى اللجنة التنفيذية لنقابة عمال الجالية اليهودية (المنظمة العامة للعمال في إسرائيل اليوم). أصبحت رئيسة القسم السياسي في المنظمة وبحلول عام 1946، عيّنت قائمة بأعمال رئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية. وعندما ذهب رئيس الوكالة موشيه شاريت إلى الولايات المتحدة بهدف الضغط على أعضاء الكونغرس من أجل قرار تقسيم فلسطين عام 1947، تركَ مائير في فلسطين لتسيطر على الإدارة السياسية في الوكالة اليهودية سيطرة تامة.
انتقلت مائير وزوجها إلى فلسطين في فترة الانتداب عام 1921 بناء على طلبها كي يكونا قريبين من “أرض الميعاد،” واستقرا في البداية في كيبوتس مرج ابن عامر
حرب فلسطين 1948
قبل أسبوعين من إصدار الأمم المتحدة قرار التقسيم، التقت مائير سراً بملك الأردن عبد الله بن الحسين، الذي حاول إقناعها بضرورة تأخير إعلان قيام الدولة العبرية. حذرها من المشاعر المتأججة في العالم العربي وقال: “لا تتعجلوا،” فنظرت إليه وأجابت: “إننا ننتظر منذ ألفي عام! هل تسمي هذا عجلة؟” اقترحت مائير على الملك عبد الله أن تقبل الوكالة اليهودية سيطرة الأردن على الضفة الغربية، مقابل موافقة الملك على البقاء خارج المناطق المخصصة لإسرائيل بحسب ما جاء في قرار التقسيم.
وأثناء الحرب التي اندلعت في منتصف شهر مايو/أيار 1948، عادت إلى الولايات المتحدة لجمع الأموال للدولتها الجديدة. كانت الوكالة اليهودية تهدف إلى جمع 7-8 ملايين دولار من اليهود الأميركيين، لكن مائير جمعت أكثر من 30 مليون دولار، بفضل مهاراتها الخطابية ولغتها الإنجليزية الطلقة، ما جعل رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون يكتب أنها “المرأة التي حصلت على المال الذي جعل الدولة ممكنة.” كانت مائير واحدة من أربعة وعشرين شخصاً وقعوا على إعلان استقلال إسرائيل، وقد وصفت لحظة التوقيع بالقول: “بعد أن وقّعْتُ، بكيت.” قارنتْ نفسها بالآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، وغادرت مجدداً إلى أمريكا لجمع 50 مليون دولار إضافي، بجواز سفر إسرائيلي هذه المرة منحها إياه زميلها القديم موشيه شاريت، وزير خارجية إسرائيل الأول.
مائير خلال مؤتمر صحافي في 15 أكتوبر/ تشرين الاول 1973
سفيرة في موسكو
عينها شاريت كأول وزيرة مفوضة لدى الاتحاد السوفياتي في 2 سبتمبر/أيلول 1948، لكن الوظيفة لم تلق هوى في نفسها واعتبرتها شكلاً من أشكال النفي. لم تكن مائير تتحدث اللغة الروسية، وكانت تمقت البروتوكول الدبلوماسي وتتوق للعودة إلى تل أبيب. تحدثت مع موشيه شاريت بهذا الأمر فأصدر قراراً بإعفائها من المنصب في 10 مارس/آذار 1949.
كان بن غوريون قد اقترح تعيين مائير نائبة لرئيس الوزراء، وهو الأمر الذي رفضته، وأشرفت كوزيرة للعمل على بناء الطرق والمساكن، ودعمت بقوة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل من جميع أنحاء العالم.
“الرجل الوحيد” في الحكومة
بعد عام، فازت بمقعد في الكنيست وعُينت وزيرة للعمل في حكومة ديفيد بن غوريون. كانت مائير وبن غوريون صديقين حميمين وكان يصفها بأنها “الرجل الوحيد” في حكومته، واقترح عليها أن تكون نائباً له ولكنها رفضت. أشرفت على بناء الطرق والمساكن، ودعمت بقوة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل من جميع أنحاء العالم. وفي عام 1955، ترشحت لمنصب رئيس بلدية تل أبيب لكنها خسرت بفارق صوتين بسبب المتشددين اليهود الذين كانوا يواجهون صعوبة في تقبل فكرة أن تصبح امرأة قوامة عليهم. عينها بن غوريون وزيرة للخارجية في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1955، بدلاً من رئيسها السابق موشيه شاريت، وفي هذه المرحلة من حياتها غيرت اسمها من “مائيرسون” (عائلة زوجها) إلى “مائير” ليكون أكثر عبرياً. شغلت وزارة الخارجية على مدى السنوات العشر التالية، حيث أشرفت على حرب السويس مع مصر عام 1956، قبل أن تتنحى إثر تشخيص إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية في يناير/كانون الثاني 1966.
رئيسة للوزراء
أخذت حياتها المهنية منعطفاً هادئاً خلال السنوات الثلاث التالية، واستقرت في حياتها الأسرية واستعدت لتصبح جدة. ثم جاءت الوفاة المفاجئة لرئيس الوزراء ليفي إشكول في فبراير/شباط 1969، وكانت نتيجة انتخابات النيابية لصالح حزبها، الذي رشحها لخلافة إشكول. وفي 7 مارس/آذار 1969، أصبحت غولدا مائير رئيسة للحكومة الإسرائيلية وتصدرت عناوين الصحف بسبب ملابسها البسيطة، وتخليها التام عن الشكليات، وسفرها في الدرجة الاقتصادية، وتسليتها الضيوف في مطبخ منزلها في تل أبيب، وهي ترتدي مئزراً وهي تحدثهم حول رؤيتها لمستقبل دولة إسرائيل. أقامت في فيلا في القدس مكونة من طابقين، كانت الحكومة الإسرائيلية قد صادرتها من الوجيه الفلسطيني حنا بشارات.
“ليس ثمة شيء اسمه الفلسطينيون“
وفي يونيو/حزيران 1969، أدلت مائير ببيانها التاريخي: “ليس ثمة شيء اسمه الفلسطينيون،” وخاضت حرب استنزاف ضد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتعهدت بإسقاط خليفته أنور السادات. كما أذنت بسلسلة من الاغتيالات التي استهدف بها جهاز الموساد كبار أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، رداً على هجوم منظمة أيلول الأسود في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في مدينة ميونخ الألمانية، الذي أسفر عن مقتل أحد عشر رياضياً إسرائيلياً سنة 1972. خططت منظمة أيلول الأسود لاغتيال غولدا مائير أثناء رحلتها إلى نيويورك في 4 مارس/آذار 1973، ولكنها كانت سباقة في الهجوم وأنشأت اللجنة “X للقضاء على أعدائها، عبر سلسلة تصفيات في كبرى العواصم الأوروبية.
عمليتها الانتقامية حملت اسم غضب الله واستهدفت بداية وائل زعيتر، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في روما الذي قُتل يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1972. وبعد أقل من شهرين، أمرت باغتيال محمود الهمشري، مبعوث ياسر عرفات إلى فرنسا، الذي لقي مصرعه بقنبلة زرعت تحت مكتبه المنزلي في باريس في يناير/كانون الثاني 1973. أما أشهر عملياتها فكانت في لبنان في أبريل/نيسان 1973، يوم هاجمت فرق الكوماندوز الإسرائيلية منازل كبار القادة الفلسطينيين في منطقة فردان وقتلتهم بأوامر صادرة من مائير.
حرب أكتوبر 1973
شكّلت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي شنّها الرئيس أنور السادات من مصر مع الرئيس السوري حافظ الأسد نقطة الانهيار في حياة غولدا مائير المهنية. فعلى الرغم من التقارير التي كانت تفيد أن السوريين كانوا يحشدون القوات على جانبهم من الحدود، أخبرها مستشاروها أن لا تقلق، وقالوا أن الأمر مجرد خدعة تهدف إلى وضع إسرائيل في حالة تأهب قصوى، كما حدث مراراً مع مصر قبلها بأشهر. لم تحشد إسرائيل جيشها، معتقدة أنه وبعد هزيمة العرب الساحقة عام 1967، فإنهم لن يجرؤوا على مهاجمة إسرائيل مرة أخرى، وكان وزير الدفاع موشيه ديان يقول لها إن العرب لن يشنوا حرباً، وظلّ مستمراً في بأقواله حتى قبل ست ساعاتٍ من اندلاع الأعمال العسكرية.
في السادس من أكتوبر/تشرين الأول، بدأت مائير أخيراً بتعبئة القوات، لكنها رفضت القيام بأي ضربة استباقية ضد سورية أو مصر، لعدم رغبتها في أن تكون هي البادية في اطلاق النار، ليس حباً بالعرب أو خوفاً بل ولكن كي لا تزعج إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي كان يدعوا للتهدئة. فاجأت الساعات الأولى من الحرب مائير وطاقمها، وتكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، ما أدى إلى استقالتها من رئاسة الحكومة في 11 أبريل/نيسان 1974، ومن الكنيست في 7 يونيو/حزيران 1974، محمّلة نفسها مسؤولية ما حدث. ترأست مجلس الوزراء المؤقت حتى أوائل ذلك الصيف ثم تقاعدت من العمل السياسي وتفرغت لكتابة مذكراتها بعنوان حياتي. وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، دعيت للتحدث أمام الكنيست بمناسبة زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل، المسؤول ولو جزئياً عن زوالها السياسي. ومع ذلك رحبت به باعتباره “صانع سلامٍ شجاع،” وبعد اثني عشر شهراً، توفيت غولدا مائير في القدس بمرض السرطان عن عمر ناهز 80 عاماً، يوم 8 ديسمبر/كانون الثاني 1978.
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!