عن ياسر العظمة
سامي مروان مبيّض (دمشق، 26 آب 2020)
تخيلوا لو جاء عادل إمام إلى أي جهة مُنتجة في مصر وفي جيبه نص تلفزيوني من تأليفه، يريد إنتاجه؟ ماذا ستكون ردة الفعل؟
سيتهافت المنتجين عليه لأنه وببساطة، عادل إمام. توقعنا أن تكون هذه هي رد فعل المنتجين السوريين، عندما دخل عليهم ياسر العظمة قبل سنوات، وفي جعبته نسخة جديدة من مسلسله الشهير “مرايا.“
ولكن هذا لم يحدث، وهو ما يُفسر غضبه الواضح في قصيدة “إن رضيت دمشق” التي عرضت عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام. بعضهم حاول فرض شروط مجحفة بحقه، عبر تدخلهم بالنص والمضمون، وأخرين فضّلوا الابتعاد عن هذا النوع من الأعمال الكوميدية لصالح ما هو “أدسم” من حيث المضمون، يتناسب مع جمهور الحرب السورية. هؤلاء أرادوا أعمالاً فيها قصص “مشوقة،” عن الخطف وتجارة المخدرات، عن الدعارة والقتل…أعمال مخصصة للكبار فقط وليس لكل أفراد الأسرة كما كانت سلسلة المرايا منذ انطلاقتها الأولى عام 1982.
أذكر أننا كنا ننتظرها بشوق مع كل أفراد الأسرة، من الكبير وحتى الصغير. كانت شقيقة جدي (وهي امرأة عجوز من تولد عام 1911) تقول لنا دوماً: “ولي على بدنو شو مسخن هالياسر العظمة!” ففي كل حلقات “مرايا” لم تظهر كلمة نابية بالمطلق، ولا كشف عن ساق امرأة، ولم يتخللها حتى قبلة عابرة. مع ذلك كان مسلسل مرايا عملاً ناجحاً بكل المقاييس، حُفر كالنقش في الذاكرة الجماعية لكل السوريين والعرب، لأنه كان يحترم عقل المشاهد ويقدم ما هو ممتع ومفيد في ذات الوقت.
لم تكن مرايا ياسر العظمة أول من ابتكر فكرة اللوحات الكوميدية المتفرقة، بل سبقها مسلسل “قصاقيص” لفهد كعيكاتي، و “تلفزيون المرح” لناجي جبر (الذي شارك به ياسر العظمة)، و”رحلة المشتاق” لداوود شيخاني، الذي كان العظمة أحد أبطاله، ولكن “المرايا” كانت أول عمل جماهيري من هذا النوع، أسس مدرسة كاملة في الفن السوري، مشي على خطاها مسلسل “بقعة ضوء” وغيره من الأعمال الكوميدية.
وللحق والأمانة التاريخية، فإن مسلسل مرايا وحده دوناً عن كلّ المسلسلات السورية يصلح أن يُلقب “عمل بيئة شامية،” لأنه جسد مدينة دمشق بكل حالاتها وتفاصيلها الصغيرة، ودخل إلى عمق المجتمع الدمشقي الذي عرفه العظمة جيداً، دون اللجوء إلى نمطية الحارة التي شهدناها في “أيام شامية” وبعدها في “باب الحارة،” والتي تقوم على ركائز دكان الحلّاق والقهوة والمخفر. وقد لعب العظمة أدواراً متنوعة للغاية، غطت كل ألوان الطيف الدمشقي، من الوالي وصولاً إلى عامل النظافة.
ولكنه وبسبب هذا الظرف الإنتاجي، لجأ ياسر العظمة مؤخراً إلى وسائل التواصل الاجتماعي عبر حلقات قصيرة حملت عنوان “مع ياسر العظمة.” وكأنه أراد أن يقول: لست بحاجة لكم جميعاً وأنا قادر على كسب جمهوري من جديد، جمهوري الذي ما زال ينتظرني منذ قرابة العشر سنوات. ظهر بحلّة جديدة، مُلتحياً بلحية بيضاء بعد أن ظهرت على وجهه المُتعب علامات السنين. نظّم قصيدة عصماء عن حبيبته دمشق، فيها اعتذار من المدينة وعتب شديد على المنتجين. واستطاع ياسر العظمة بست دقائق أن يبرهن للناس أنه فنان ثلاثي الأبعاد، متجدد ومتعدد المواهب، يجيد الشعر والإلقاء، تماماً كما برع في التمثيل والغناء.
ربما أدرك ياسر العظمة أن زمن المرايا قد ولىّ، بسبب غياب معظم نجومها الكبار، مثل سليم كلاس وعصام عبجي وحسن دكاك. ولكنه لم يتوقف على أمجاد الماضي وأصرّ أن يقدم ما هو جديد، تماشياً مع تقدمه في السن والظروف العامة للبلاد والعباد. هكذا فعل شارلي شابل من قبله، عندما تخلى عن شكله المعروف وأعماله الصامتة بسبب تقدمه بالسن، وقدم أفلاماً أكثر جدية في سنواته الأخيرة، علماً أنها لم تحقق نفس الرواج الذي حققته أفلام “أضواء المدينة” و”السيرك.” ولكنه حافظ على اسمه، وبقي شارلي شابلن ملكاً في ماضيه، لا ينازعه أحد على عرش الكوميديا.
قد لا تحقق هذه الحلقات نفس نجاح المرايا، ولكن ياسر العظمة يستحق التقدير لمجرد شرف المحاولة. فقد أثبت للناس أنه طاقة فنية فريدة من نوعها، لا تنضب، وترفض التقاعد. هرمت دمشق في السنوات القليلة الماضية وهرمنا معها تماماً كما هَرم ياسر العظمة. ولكنه بقي واقفاً وشامخاً…مثل دمشق، متحدياً ظروف هذا الزمان الذي بات لا يشبهنا بشيء، ولا نُشبههُ.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!