عبد القادر الجزائري بعد 141 عاماً على وفاته… كيف وأد الفتنة الطائفية؟

سامي مروان مبيّض (26 أيار 2024)

في خريف عام 1861، وصل مندوب عن الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن إلى دمشق، حاملاً مسدسين حربيين هدية للأمير عبد القادر الجزائري. كان لينكولن حديث العهد في البيت الأبيض، توجه مندوبه إلى دار الأمير الكائنة في زقاق النقيب خلف الجامع الأموي ليقدمها له، اعترافاً بدوره الكبير في حماية مسيحيي المدينة أثناء الأحداث الدامية التي شهدتها دمشق صيف عام 1860. وكانت ملكة بريطانيا فيكتوريا قد سبقته بإرسال سيف مرصع للأمير، وقلده بابا الفاتيكان وساماً، وحصل على وسام الشرف من إمبراطور فرنسا نابليون الثالث.

في عام 1915، وبعد سنوات طويلة على وفاة الأمير عبد القادر، أُطلق اسمه على مدينة في ولاية أيوا الأميركية، ولاحقاً سميت إحدى المنح الدراسية باسمه في جامعة فيرجينيا، وأقامت الأمم المتحدة ندوة حول دوره الإنساني عام 2006، ووضع تمثال له في إحدى قاعاتها، وسُمي كرسي حقوق الإنسان في اليونيسكو باسمه. فمن هو هذا الرجل الجزائري – نزيل دمشق في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته – الذي احتفى به قادة العالم؟

يُصادف اليوم الذكرى الواحدة والأربعين بعد المئة لوفاة الأمير عبد القادر الجزائري يوم 26 مايو/أيار، وتقوم “المجلة” بنشر مقتطف من سيرته.

من المعتقل إلى دمشق

ولد الأمير عبد القادر في قرية قريبة من مدينة معسكر غربي الجزائر سنة 1808، وأسس الدولة الجزائرية الحديثة قبل أن يحمل السلاح في وجه الفرنسيين يوم غزوهم لبلاده. حاربهم طيلة سبع عشرة سنة متواصلة، واعتقل على أيديهم، مع أولاده ورجاله وكل أفراد أسرته. تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب في سجن أمبواز الفرنسي، وبعض أنصاره وأقربائه ماتوا في المعتقلات، ودفنوا في مكانهم قبل أن يأمر نابليون الثالث بإطلاق سراحهم. استقبل الإمبراطور الأمير عبد القادر وكرمه، ثم عرض عليه الانتقال إلى أي بلد يريده إلا الجزائر، فاختار دمشق التي كان قد عرفها شاباً أثناء مروره بها مع أبيه في سفرهم إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. وكان نابليون نفسه قد ذاق طعم الاعتقال إبان محاولاته الانقلاب على سلفه الملك لويس فيليب الأول، ولهذا السبب لم يرغب في مواصلة اعتقال الأمير، وتدخل شخصياً للإفراج عنه. وقد عوضه براتب سنوي يقارب ستة آلاف فرنك، وفقا للأعراف الملكية التي تقتضي احترام الخاسر من أنداد الملوك في حروبهم.

وفي سنة 1855، وصل الأمير إلى دمشق ومعه نحو مئتي رجل من كُتاب وخدم وأتباع، لُقبوا جميعاً بـ”الجزائري” حتى وإن لم يكونوا من أسرة الأمير. استقبله الشيخ محمود الحمزاوي، الذي انعقدت بينه وبين الأمير روابط المصاهرة، وباعه سلسلة من الدور في زقاق النقيب بحيّ العمارة، التي أخذت اسمها لأنها ملك لنقباء الأشراف من آل الحمزاوي.

حذر الأمير من نيران الفتنة الطائفية التي اندلعت بين المسيحيين الموارنة والدروز في جبل لبنان سنة 1860

 

 

كان أهالي دمشق يتابعون أخبار الأمير منذ بدء ثورته ضد الفرنسيين، مروراً بظروف اعتقاله القاسية، وقد ألهبت هذه الثورة مشاعر المسلمين ليس فقط في سورية بل في أراضي السلطنة العثمانية كافة.

بعلمه وماله وشخصيته القيادية، استطاع عبد القادر الجزائري أن يتوج نفسه زعيماً على المدينة، ويبني سمعة قل مثيلها في تاريخ دمشق الحديث. تأثر الدمشقيون بتقواه واستقامته وكرمه، فلُقب بأمير العلماء ونصير الفقراء والمستضعفين، وكانت دمشق يومها في أشد الحاجة إلى بطل مسلم ورمز قومي يساعد أهلها على النهوض من حالة الركود الاقتصادي، وغطرسة الأغوات ورجالهم المسلحين المهيمنين على حياة الناس.

كان الأمير عبد القادر يمتلك كل ما يطمح إليه أي زعيم أو طامح إلى الزعامة، ابتداء من الشرعية الدينية، لكونه منسوباّ إلى سلالة آل البيت، الأدارسة المشهورين بملوك المغرب الأوسط، وصولاً إلى فكرة النير والمتجدد، فهو يُعد من علماء عصره، مروراً بماله الوفير وحكمته.

أهكذا ترضون نبيكم؟

حذر الأمير من نيران الفتنة الطائفية التي اندلعت بين المسيحيين الموارنة والدروز في جبل لبنان سنة 1860، هرب المسيحيون إلى دمشق بحثاً عن الأمان، واستقبلوا في أحيائها المسيحية في مناطق باب توما وباب شرقي وبعض حارات القيمرية. ولكن في 9 يوليو/تموز 1860، وصلت الفتنة إلى دمشق، وهاجمت مجموعة من الغوغاء الأحياء المسيحية، ودمرت وأحرقت الكنائس والقنصليات الأجنبية.

استمرت المذبحة أسبوعاً كاملاً، لم تحرك فيها الدولة العثمانية ساكناً، وقتل ما لا يقل عن خمسة آلاف مسيحي، من أهالي المدينة الأصليين وضيوفهم القادمين من جبل لبنان. هب الأمير لمساعدتهم بالتعاون مع صديقه الشيخ محمود الحمزاوي وبعض أعيان المسلمين، ففتحوا لهم أبواب قلعة دمشق لإيوائهم، وفتح الأمير داره لاستقبال آلاف الناس.

أول من وصل الدار كان طاقم القنصلية الفرنسية، تلاهم زملاؤهم من بقية البعثات الأجنبية مع الأهالي والرهبان وتلاميذ مدرسة الآسية البطريركية، ولم ينج من الموت إلا مدرس واحد فقط، هو ميخائيل كليلة، الذي استطاع النجاة بالتلاميذ ووصل إلى منزل الأمير.

حمل الأمير عبد القادر سيفه، وخرج أمام الجموع التي وصلت إلى باب داره، صائحاً: “أهكذا ترضون نبيكم محمدا؟ لن تنالوا من مسيحي واحد هنا، فجميعهم إخوتي.” استفاد الأمير من المقاتلين المتمرسين القادمين معه من الجزائر، وعاد الغوغاء دون اقتحام المنزل. وفي أعقاب تهديد الدول الأوروبية بالتدخل العسكري لحماية ما تبقى من مسيحيي سورية ولبنان، قررت الدولة العثمانية التدخل، ولو بعد فوات الأوان. ظل رجال الأمير يحمون الأحياء المسيحية من يوليو/تموز وحتى ديسمبر/كانون الأول عام 1860، وعندما وصلت القوات الفرنسية إلى الساحل، مهددة بالتدخل العسكري، خرج الأمير لمقابلة الضباط الفرنسيين في قرية قب إلياس البقاعية وتحذيرهم من عواقب الهجوم.

استجاب الأمير لطلب الوزير العثماني فؤاد باشا، واصطفى 400 مقاتل من رجاله، وضعهم تحت تصرف الدولة لتمرين قواتها النظامية على مواجهة أي حدث مشابه قد يضرب دمشق مستقبلاً. أقيم استعراض عسكري لهم في سهل القابون، حضره فؤاد باشا والقناصل الأجانب الأمير عبد القادر عندما بدأ الاستعراض خرج الضيوف من خيمهم لمشاهدة المناورات إلا الأمير، وعند الاستفسار عن سبب تغيبه، قال للوزير العثماني: “إني شاهدت كل ذلك فعلاً، وكنت أتلقى الرصاص والكلل بصدري، فلا لذة لي الآن برؤيته تمثيلاً”.

 

في سبتمبر 1918 تبوأ حفيده الأمير سعيد منصب أول حاكم لمدينة دمشق في الأسبوع الفاصل بين خروج العثمانيين ودخول القوات العربية نهاية الحرب العالمية الأولى

 

 

أشرف بعدها الأمير على إرسال المسيحيين إلى بيروت، وكانت كل قافلة بحراسة رجاله مؤلفة من ثلاثة آلاف شخص. يومها أمر فؤاد باشا بتغيير كامل عناصر الدرك العاملين في دمشق، واستبدال قوات جديدة بهم لا تعرف المدينة أو أياً من أهلها لمنع التعاطف مع الناس أثناء المداهمات.

عُزل بعدها والي الشام العثماني أحمد عزت باشا، بعد مسيرة عسكرية حافلة كان قد نال فيها أرفع أوسمة الدولة العلية في حربها مع روسيا. كان التحقيق معه سريا في إسطنبول بعد تجريده من سيفه وأوسمته، ومن لقب الباشاوية الممنوح له من السلطان. أعيد إلى دمشق حيث وضع تحت الإقامة الجبرية، ثم أقيمت محاكمة خاصة له يوم 7 سبتمبر/أيلول 1860، حكم عليه بالموت رمياً بالرصاص، ومعه القائد العسكري لمنطقة باب توما، وهو تركي أيضاً. بعد عودة الهدوء، اعتقلت الدولة العثمانية، ونفت وأعدمت عدداً كبيراً من أعيان دمشق، بتهمة المشاركة في المجزرة أو عدم اعتراضها. ولكنها وجدت نفسها بأمس الحاجة إلى إيجاد نخبة سياسية جديدة للمدينة، لملء الفراغ الذي خلفه غياب الأعيان القدامى، فسمحت لنخب جديدة بأن تظهر، مثل آل اليوسف وآل الكزبري وآل العابد، وفي مقدمتهم آل الجزائري.

آل الجزائري

أصبح نجله الأمير محمد باشا فريقا في الجيش العثماني، ثم قائدا لحرس السلطان عبد الحميد الثاني. وكان شقيقه الأمير علي باشا عضوا في مجلس المبعوثان، وقد التحق نجله الأمير عبد المالك بالثورة على الإسبان في تطوان المغربية، واستشهد فيها سنة 1924. ولكن أحد أولاد الأمير أعدم شنقا في ساحة المرجة وسط دمشق سنة 1916، بتهمة تقاضي أموال من الفرنسيين للعمل ضد الدولة العثمانية.

 

أ.ف.ب

الزعيم الجزائري التاريخي الأمير عبد القادر

 

وفي سبتمبر 1918 تبوأ حفيده الأمير سعيد بن علي باشا الجزائري منصب أول حاكم لمدينة دمشق في  الأسبوع الفاصل بين خروج العثمانيين ودخول القوات العربية نهاية الحرب العالمية الأولى. كان الأمير سعيد قد ولد قبل أشهر من وفاة جده سنة 1883 وهو الذي سماه “محمد سعيد”. ظن الأمير سعيد أن دمشق مقبلة على فوضى عارمة تشبه تلك التي حصلت عام 1860، ففتح أبواب قصر جده مجددا أمام المسيحيين، وعمل على حماية ما بقي من أموال الولاية، وعلى سلامة الجنود العثمانيين المنسحبين من دمشق.

لم يتسلم أحد من أفراد الأسرة منصباً حكومياً من بعده، رغم محاولة الأمير سعيد الترويج لنفسه لتولي عرش سوريا عام 1932، ومشاركته في تأسيس الكتلة الوطنية المعارضة للانتداب الفرنسي. وحده الأمير جعفر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر، تولى إدارة المتاحف والآثار في سورية، وكان محافظا لجبل الدروز، وعضوا مؤسسا بـحزب الشعب في الخمسينات. أما دار الأمير فقد بقيت قائمة حتى اليوم، وفيها أقام أحد أحفاده، الأمير جعفر بن طاهر الجزائري، مؤسسة دولية للتراث والحفاظ على إرث الأمير، افتتحت عام 2014.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *