شيعة لبنان قبل الحرب الأهلية

سامي مروان مبيّض (المجلة – 23 تشرين الأول 2024)

في 26 مايو/أيار 1926 شكّلت الحكومة اللبنانية الأولى برئاسة الوجيه المسيحي أوغست باشا أديب، قبل أن تكون رئاسة الوزراء في يد المسلمين السنة، وهو العرف المتبع منذ سنة 1943. حتى رئاسة الجمهورية في حينها لم تكن حكرا على المسيحيين الموارنة، وكان رئيس لبنان سنة 1926 المحامي الأرثوذكسي شارل دبّاس، وقد ترشح للرئاسة بعدها بست سنوات الشيخ محمد الجسر، زعيم طرابلس المسلم.

تألفت حكومة أوغست أديب من سبعة وزراء، بينهم أربعة مسيحيين، ووزير واحد لكل من الطوائف السنية والشيعية والدرزية. ذهب المقعد الشيعي إلى علي نصرت الأسعد الذي سمّي وزيرا للزراعة، وهو شاعر ومستشار في محكمة الاستئناف، ونجل الوجيه شبيب باشا الأسعد، زعيم جبل عامل في زمن الحكم العثماني. كانت الزعامة الشيعية في حينها محصورة ضمن العائلات الإقطاعية الكبرى، من آل الأسعد والحسيني وعسيران، وجميعهم لم يختلفوا عن الزعامات التقليدية السنية التي ظهرت في زمن العثمانيين، لا من حيث الثراء والوجاهة، ولا من حيث النفوذ السياسي.

لم يرفع أحدمن هؤلاء الأعيان شعاراً طائفياً في حملاته الانتخابية، وكانوا يعدون أنفسهم لبنانيين متساوين مع بقية الطوائف الأخرى، لهم حقوق وواجبات تحت سقف الدولة اللبنانية، وتمثيل سياسي تناسب مع عددهم وتوزيعهم الجغرافي. دخلوا في الجيش اللبناني عند تأسيسه، وشغلوا أرفع المناصب الحكومية، ومنها رئاسة المجلس النيابي ابتداء من سنة 1943.

ولم يكن هذا التمثيل أو الوجود السياسي مرتبطا بمرحلة الانتداب الفرنسي أو بمرحلة الاستقلال، وإذا عدنا إلى المرحلة العثمانية، نجد مثلاً أن الوجيه الشيعي خليل بك الأسعد عُيّن متصرفاً على مدينة نابلس، وأصبح نجله كامل الأسعد نائبا في مجلس المبعوثان في إسطنبول.

عبد الكريم خليل

عبد الكريم خليل

نشط الشيعة قبل الحرب العالمية الأولى على طرفي الصراع العربي –العثماني، وكان المفكر القومى عبد الكريم خليل رئيساً للمنتدى الأدبي في إسطنبول، وهو أحد الوطنيين الذين أعدموا شنقا على يد جمال باشا سنة 1916.

في ذلك الوقت، لم يكن أحد من المسلمين الشيعة في لبنان يتحدث عن “المظلومية الشيعية” التي تكرر ذكرها في الستينات ومطلع سبعينات القرن العشرين بعد تراجع الإنفاق الحكومي على المناطق الشيعية وتحديدا في الجنوب اللبناني. وهذا التراجع لم يكن بدوافع مذهبية أو طائفية، بل لأن العاصمة بيروت أصبحت مركز اهتمام الدولة اللبنانية، على حساب طرابلس وصيدا وصور والجنوب أيضاً، بما أنها كانت “سويسرا الشرق” ومقصد السياح والمستثمرين العرب والأجانب. ومن هنا ولدت حركة المحرومين الشيعية التي قادها الإمام موسى الصدر سنة 1974، مطالباً بإنصاف شيعة لبنان وتقويتهم، وهي التي انبثق عنها حزب الله سنة 1984.

لمن تكون الأغلبية في لبنان؟

تحالف السنة والشيعة في مفاصل عدة من تاريخ لبنان المعاصر، ولكنهم اختلفوا حول مستقبل الكيان اللبناني الذي ولد مع بداية الانتداب الفرنسي في سبتمبر/أيلول 1920. مسلمو بيروت وطرابلس وصيدا كانوا يرغبون في البقاء مع سورية وعدم سلخهم عن الوطن الأم، بينما ترأس المسيحيون الموارنة المجموعة اللبنانية المدافعة عن لبنان الكبير، مدركين أن اليد العليا فيه ستكون لهم بصفتهم أكثرية. في الإحصاء السكاني الرسمي (والأخير) الذي أجري في زمن الانتداب سنة 1932، حُدّد عدد سكان لبنان بـ875.252 نسمة (53 في المئة منهم من المسيحيين)، وبناء عليه كانت أعلى الوظائف الحكومية في الدولة لهم دون سواهم من المسلمين، سواء كانوا من السنة أو الشيعة.

 

استمر التمثيل الشيعي في سنوات الانتداب بحقيبة واحدة في كل وزارة، وسمّي القاضي أحمد الحسيني وزيراً للأشغال العامة سنة 1928، تلاه صبحي حيدر في وزارة المالية حتى سنة 1932

 

 

ويُحكى أن الرئيس اللبناني إميل إده عندما سئل عن سبب تفوق المسيحيين في وظائف الدولة اللبنانية سنة 1936، رد قائلاً: “لبنان بلد مسيحي… فليذهب المسلمون إلى مكة.” أما في المسح السكاني الثاني غير الرسمي الذي أجري في عهد الرئيس كميل شمعون سنة 1956، فقد حدد عدد سكان لبنان بقرابة مليون و400 ألف نسمة: 286 ألف مسلم سني، 250 ألف مسلم شيعي، و424 ألف مسيحي.

مقاربات مختلفة تجاه لبنان الكبير

في موقفهم تجاه الدولة اللبنانية الحديثة، كان شيعة لبنان أقرب إلى موقف الموارنة، يفضلون الاستقلال عن سورية ليكونوا أقلية كبيرة في لبنان، بدلاً من أقلية صغرى في سورية. طبعاً معظم اللبنانيين لم تعجبهم الحدود النهائية التي فُرضت عليهم مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد تقدم إميل إده بمذكرة إلى الفرنسيين، قال فيها إن عدد المسلمين والمسيحيين اللبنانيين متقارب، وبما أن لبنان يحتاج إلى أكثرية مطلقة لحمايته، أقترح تقسيم مدينة طرابلس الشمالية وإعطاء أهلها المسيحيين الجنسية اللبنانية، وسكانها المسلمين الجنسية السورية، مع منح جنوب لبنان استقلالاً ذاتياً على غرار دولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز في سورية، لإبعاد المكون الشيعي عنه (كان عدد سكان الجنوب يومها 140 ألف نسمة).

الدور الوطني سنة 1943

استمر التمثيل الشيعي في سنوات الانتداب بحقيبة واحدة في كل وزارة، وسمّي القاضي أحمد الحسيني وزيراً للأشغال العامة سنة 1928، تلاه صبحي حيدر في وزارة المالية حتى سنة 1932. كان صبحي حيدر من أعيان بعلبك، وخريج المعهد الملكي في إسطنبول، وفي الوقت الذي كان ينشط فيه في الداخل اللبناني كان والده سعيد بك من أركان الحركة الوطنية في سورية، قبل مشاركته في صياغة الدستور السوري سنة 1950. وظهر زعيم آخر يدعى إبراهيم حيدر، الذي تولّى حقائب الصحة والبرق والبريد في نهاية الثلاثينات، إضافة لعضوية مجلس الشيوخ اللبناني الذي لم يستمر طويلاً. وفي الانتخابات اللبنانية سنة 1943، تحالف الزعيم السني رياض الصلح مع الزعيم الشيعي أحمد الأسعد، وترشح على قائمته لدخول البرلمان، نظراً لشعبية الأسعد الفائقة في المناطق الشيعية. وعند افتتاح المجلس النيابي اقترح الزعيم السني صائب سلام على نظيره الشيعي صبري حمادة أن يكون الأخير رئيساً للمجلس، خلفا للسياسي المسيحي بترو طراد.

 

في عهد بشارة الخوري – رياض الصلح، وضع الميثاق الوطني الشفهي بينهما، الذي لا توجد إشارة مكتوبة له إلا في بيان حكومة الصلح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 1943

 

 

وفي مذكراته المنشورة قبل سنوات، يقول الرئيس سلام إنه لم يرشّح صبري حمادة للمنصب لكونه شيعياً بل لأقدميته النيابية، نافياً أن يكون الاختيار لدوافع طائفية. وعند انتهاء ولاية صبري حمادة، ترشح لخلافته كل من نائب بيروت الشيعي رشيد بيضون، والوزير السابق أحمد الأسعد، وقد ذهب الأخير على رأس وفد كبير عابر للطوائف لإقناع بيضون بالانسحاب لصالحه.

وأثناء حكومته الأولى في سبتمبر 1943، عيّن  الرئيس رياض الصلح الوجيه الشيعي عادل عسيران وزيراُ للأشغال العامة والتجارة والصناعة، قبل اعتقالهم مع رئيس الجمهورية بشارة الخوري على يد الفرنسيين في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1943 بسبب دعمهم لإصلاحات دستورية كان من شأنها إنهاء شرعية الحكم الفرنسي في لبنان. وقد أدى هذا الاعتقال، الذي شمل وزير الداخلية الماروني كميل شمعون، ووزير الخارجية المسيحي سليم تقلا، إلى توحيد الطوائف اللبنانية كافة في وجه الانتداب، وشارك رئيس المجلس صبري حمادة مشاركة محورية في عودة الشرعية الدستورية، داعياً النواب إلى اجتماع طارئ، حضره النائب الشيعي رشيد بيضون والنائب السني صائب سلام وغيرهم، وضعوا فيه تصميم العلم اللبناني الحالي، مع شطب أي إشارة فيه إلى الانتداب الفرنسي.

الميثاق الوطني سنة 1943

في عهد بشارة الخوريرياض الصلح، وضع الميثاق الوطني الشفهي بينهما، الذي لا توجد إشارة مكتوبة له إلا في بيان حكومة الصلح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 1943. أكد “الميثاق” صيغة المشاركة في الحكم لكل مكونات المجتمع اللبناني، كما نصت عليه المادة 95 من الدستور، وحددت رئاسة الجمهورية من يومها للمسيحيين الموارنة، ورئاسة الوزراء للمسلمين السنة، ورئاسة المجلس النيابي للمسلمين الشيعة. وأكد “الميثاق” أن لبنان “ذو وجه عربي” ولا يمكن فصله عن هموم محيطه في الشرق الأوسط وقضاياه. وقد جرت محاولات فردية لتجاوز “الميثاق” ولكنه لم يخرق رسمياً إلا مرتين، كانت الأولى عند تولّي حبيب أبو شهلا الأورثوذكسي رئاسة مجلس النواب سنة 1946، وفي سنة 1988 يوم تسمية العماد ميشيل عون رئيساً للحكومة في الساعات الأخيرة من عهد الرئيس اللبناني أمين الجميل. وجد اللبنانيون أنفسهم يومها أمام رئاستين للحكومة، الأولى لعون، والثانية لرئيس الوزراء الشرعي المسلم السني سليم الحص.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *