دروس بايدن من حرب السويس
سامي مروان مبيّض (المجلة، 12 كانون الأول 2023)
في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1956، انفجرت مظاهرات طلابية عارمة في العاصمة المجرية بودابست، التابعة يومها للمعسكر الشرقي في الحرب الباردة والتابعة سياسياً للاتحاد السوفياتي. استمرت المظاهرات اثني عشر يوماً، مطالبة بالتخلص من الحكم الشيوعي في المجر، قبل تدخل الجيش السوفياتي لقمعها عسكرياً واستعادة وإعادة الأمور إلى نصابها في 4 نوفمبر/تشرين الثاني.
تفاجأت الولايات المتحدة الأميركية بالمظاهرات التي وصفها مدير وكالة الاستخبارات الأميركية آلان دالاس “بالمعجزة،” بينما قال الرئيس دوايت أيزنهاور إنها عكست رغبة الشعب المجري الحقيقية “نحو الحرية والديمقراطية.” وفي خضم تلك الأزمة الدولية في المجر انفجرت معركة ثانية في ذلك الخريف العاصف من العام 1956، يوم بدأ العدوان الثلاثي على مصر في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول.
ثوار هنغاريون ضد النفوذ السوفياتي
الرئيس أيزنهاور كان أحد أشهر القادة العسكريين للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وكان يعتقد أنه كرئيس دولة عظمى منذ سنة 1953، لا يمكنه إدانة غزو المجر والسكوت أو غض الطرف عن غزو بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لمصر. موقفه الصلب يومها يدعو للمقارنة بموقف خلفه الرئيس جو بايدن اليوم، الذي عارض الحرب الروسية في أوكرانيا ووضع كامل ثقله السياسي خلف الحرب الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة.
عنصر المفاجأة
البعض ربط موقف بايدن بالانتخابات الرئاسية المقبلة في بلاده في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وعدّ أنه يسعى لكسب أصوات الناخبين اليهود من أجل التجديد له في البيت الأبيض. ولكن التحدي نفسه واجه دوايت أيزنهاور من قبله، يوم أتت حرب السويس في أسبوع الانتخابات الرئاسية الاميركية سنة 1956، ولكنها لم تمنعه من اتخاذ موقف صلب وحاسم في وجه إسرائيل.
توجس أيزنهاور من تهديدات الاتحاد السوفياتي، وعدها “غير مقبولة،” ولكنه في الوقت نفسه اعتبر أن العدوان الثلاثي هو أيضاً “غير مقبول”
كان الجيش الإسرائيلي يجري مناورات عسكرية، ويقول إنها رد على اتفاق دفاع مشترك وقع في أكتوبر/تشرين الأول بين مصر وسورية والأردن. أما عن قرار الحرب على مصر، فقد جاء رداً على تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس في شهر يوليو/تموز؛ حيث عُقد اجتماع سري في ضاحية سيفر القريبة من باريس في 24 أكتوبر/تشرين الأول، حضره وزير الخارجية الفرنسي كريستيان بيانيو ونظيره البريطاني سيلوين لويد مع رئيس وزراء إسرائيل ديفيد بن غوريون ورئيس أركان جيشه موشيه ديان. قرروا توجيه إنذار شديد اللهجة إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر بضرورة التراجع عن قرار التأميم، وهم على يقين مسبق من أنه سيرفض، ومن بعدها يطلقون حربهم ضده لإخراجه منها بالقوة.
وزير الخارجية الأميركية في حينها، جون فوستر دالاس، وصف الإنذار المشترك بأنه “فظ وغير مقبول” وتخوف كثيراً من ردة فعل الاتحاد السوفياتي بعد تهديد الزعيم الروسي نيكولاي بولغانين باللجوء إلى العنف لحماية مصر من العدوان “إن وقع.” وكان بولغانين قد بعث برسالة إلى رؤساء الحكومات الفرنسية والبريطانية والإسرائيلية، مهدداً بحرب عالمية ثالثة، وقال: “إننا عازمون تماماً على سحق المعتدي وإعادة السلام في الشرق الأوسط.”
توجس أيزنهاور من تهديدات الاتحاد السوفياتي، وعدها “غير مقبولة،” ولكنه في الوقت نفسه اعتبر أن العدوان الثلاثي هو أيضاً “غير مقبول،” علما أن المشاركين فيه هم حلفاؤه في الحرب العالمية الثانية الذين تعاونوا معه في الماضي القريب على دحر الجيش النازي في أوروبا. وقال أمام مستشاريه: “إنهم (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) لم ينسّقوا معنا.” وجاء في بيان البيت الأبيض أن الرئيس الاميركي علم بالعدوان “من التقارير الصحافية.”
دعهم يغلوا في زيتهم
حاول جون فوستر دالاس الاتصال بسفراء الدول الثلاث في واشنطن، ولكنهم تهربوا من الاجتماع به وأرسلوا ممثلين عنهم، بينما بعث أيزنهاور برسالة غاضبة إلى بن غوريون الذي أجاب بأن بلاده تقوم بكسر “طوق الحديد” المفروض حولها من قبل عبد الناصر وبقية الدول العربية.
ألغى أيزنهاور خطاباته المقررة في ولايات تكساس وأوكلاهوما وتينيسي، وطلب من نائبه ريتشارد نيكسون تمثيله فيما تبقى من الحملة الانتخابية، بينما دخل في اجتماعات مفتوحة مع دالاس ووزير الدفاع شارل ويلسون ومدير التسليح آرثر فليمنغ. قال أيزنهاور لفليمنغ: “من أطلقوا هذه العملية (في مصر) يجب عليهم حل مشاكلهم بنفسهم. دعهم يغلوا في زيتهم.”
وفي آخر خطبة انتخابية له في مدينة فيلادلفيا قال أيزنهاور: “لا نقبل أن يكون هناك مواطنون من الدرجة الثانية أمام القانون الأميركي.” واعتبر حرب السويس “اختباراً لمبادئنا،” وأضاف أنه قرر اتباع “طريق الشرف” ضد القوة غير المبررة سواء من حلفائنا في تعاملهم مع مصر أو السوفيات في تعاملهم مع المجر.
وأخيراً، جاء في كلمته الانتخابية: “في العالم كله كما هو الحال في بلادنا، لا يمكننا أن نلتزم بقانون واحد للضعفاء وقانون آخر للأقوياء: قانون لمن يعارضنا وقانون آخر للمتحالفين معنا. يجب أن يكون هناك قانون واحد فقط وإلّا فلن يكون هناك سلام في العالم.”
طلب بعدها من دالاس صياغة رسالة إلى رئيس حكومة بريطانيا أنتوني إيدن، جاء فيها: “يتوجب عليّ القول إننّي لا أرى أي خير من هذا المخطط الذي سيستعدي العالم الإسلامي كله.” ثم قرر عدم إرسال البرقية، في انتظار تبلور الموقف السوفياتي، بعد زيارة الرئيس السوري شكري القوتلي إلى موسكو نيابة عن عبد الناصر وطلب العون العسكري من السوفيات قائلاً: “أين هو الجيش الأحمر الذي قهر هتلر؟” ومع حلول يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول كان البريطانيون قد بدأوا بالإغارة على طرق الإمداد المصرية ودمروا مئات الطائرات الحربية في قاعدة ألماظة الجوية شمال شرقي القاهرة.
أغلقت قناة السويس بشكل كامل وأكمل الجيش الإسرائيلي في طريقه نحو سيناء، ما جعل صحيفة نيويورك تايمز تنشر مقالاً بعنوان: “واشنطن تفقد السيطرة،” جاء فيه: “الولايات المتحدة بدأت تفقد سيطرتها في مناطق أمنها والرئيس الأميركي لا يمكنه بعد اليوم التحدث بصفته حامياً للسلام.” استغل المرشح الديمقراطي أدلاي ستيفنسون حرب السويس للنيل من سمعة أيزنهاور وفي حملته الانتخابية من مدينة نيويورك استشهد بالحرب المصرية أربع مرات، وقال: “الشيوعيون الروس حصلوا اليوم على موطئ قدم في الشرق الأوسط كان القياصرة يسعون إليه منذ قرون،” محملاً إدارة أيزنهاور مسؤولية ما يحدث في الشرق الأوسط.
استغرب أيزنهاور رفض دالاس فكرة فرض عقوبات على بريطانيا وفرنسا، وقال إن سلاح العقوبات، إن استخدم من دولة عظمى، يجب أن يُطبق على كل المعتدين
بطلب من الرئيس، التقي دالاس مع قائد العمليات البحرية الأدميرال أرليغ بورك، وسأله إن كان بإمكانه وقف العدوان الثلاثي على مصر. ورد الأخير: “معالي الوزير، هناك طريق واحد لوقفهم، وهو قصفهم بعنف.” أجابه دالاس: “ألا توجد طريقة أخرى؟” هز بورك برأسه وقال: “لا… إذا هددنا، فعلينا أن نكون جاهزين لإطلاق النار.” وضع الأسطول السادس في حالة تأهب قصوى، ولكن قائده لم يخف تخبطه وحيرته عمن هو العدو الحقيقي لأميركا، هل هم حلفاء الأمس في الحرب العالمية الثانية؟ أم مصر ورئيسها، حليف الاتحاد السوفياتي؟
فرض عقوبات على إسرائيل
بعد استبعاد الحل العسكري أمر أيزنهاور بتقديم مسودة قرار لوقف إطلاق النار إلى الأمم المتحدة في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1956، مع المطالبة بانسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية وفتح قناة السويس أمام الملاحة الدولية. أمر دالاس بالتوجه إلى الجمعية العامة “في الصباح الباكر… لحظة فتح أبوابها… قبل أن يصلها الروس.” كما أنه فكر ملياً بفرض عقوبات اقتصادية على حلفائه الثلاثة، بينما اقترح دالاس أن تكون العقوبات على إسرائيل وحدها فقط، واقترح أن تكون “خفيفة” وغير مؤذية”. رد الرئيس بغضب: “لعنة الله (عليهم)! فوستر، قل لهم إننا ذاهبون إلى الأمم المتحدة، وسنعمل كل شيء لوقف العدوان. لا شي يشفع لهم خداعنا بهذه الطريقة.”
استغرب أيزنهاور رفض دالاس فكرة فرض عقوبات على بريطانيا وفرنسا، وقال إن سلاح العقوبات، إن استخدم من دولة عظمى، يجب أن يُطبق على كل المعتدين. ولكنه وقبل إرسال مسودة القرار الأميركي إلى الأمم المتحدة، قام بطرحه على مكتب الأمن القومي في واشنطن، وتولّى دالاس الترويج له وإقناع الجميع بضرورته، قائلاً: “إن لم تقد أميركا المبادرة في الأمم المتحدة، سيفعلها السوفيات لا محالة.”
الضغط الاقتصادي
هنا تدخل أحد مستشاري الرئيس، هارولد ستاسين، واقترح السعي نحو وقف إطلاق نار دون إدانة أي من الدول الثلاث، مذكراً أن بريطانيا تبقى “حليفاً رئيساً” للولايات المتحدة، حتى لو كان قرارها “خطأ كبيراً،” وقال إن العدو الحقيقي لأميركا يبقى الاتحاد السوفياتي.
قرر أيزنهاور استخدام ثقل بلاده الاقتصادي للضغط على بريطانيا لوقف حملتها العسكرية في مصر
ومع توجه دالاس إلى الأمم المتحدة لطرح مسودة القرار الأميركي، بدأ أيزنهاور إعداد خطة رديفة للضغط على حلفائه، وقال لوزير الخارجية: “لن نحصل على وقف إطلاق نار لمجرد طلبنا ذلك منهم، والقول لهم: نرجوكم وقف إطلاق النار.”
جندي بريطاني على متن دبابة في السويس في 1956
كان يعلم أن الحكومة البريطانية تعاني من مشاكل مالية كبيرة وقد سمع ذلك شخصياً من إيدن أثناء زيارة الأخير إلى واشنطن في شهر يناير/كانون الثاني عام 1956. وكان مدركاً أيضاً حجم المعارضة الشعبية في إنكلترا لحرب السويس، وتزايد وتيرة المظاهرات العارمة في شوارع لندن المطالبة بوقف العدوان. حتى الصحف اللندنية كانت في معظمها ضد الحرب وكذلك الكثير من المثقفين وقادة الرأي، ومنهم أساتذة جامعة أكسفورد العريقة الذين سطّروا بيانا لحكومتهم، اعتبروا فيه أن العدوان الثلاثي كان “خطأ أخلاقياً” ارتكبته حكومة إيدن. وعندما ظهر وزير الخارجية البريطاني في مناسبة أمام حزب المحافظين في لندن، قابله المتظاهرون بهتاف: “داعية حرب.”
وعندما لم تنجح كل المساعي السلمية، قرر أيزنهاور استخدام ثقل بلاده الاقتصادي للضغط على بريطانيا لوقف حملتها العسكرية في مصر، وأعلن عن نيته تجميد شحنات النفط إلى الحلفاء، في حال لجأ العرب إلى سلاح النفط والمقاطعة. كانت بريطانيا قد خسرت ما يقارب خمسين مليون دولار من احتياطها في أول يومين من حرب السويس، ولكي تحافظ على التوازن المالي، اضطرت للتفكير في تخفيض قيمة عملتها، المرتبطة يومها بالدولار بسعر 2.80. ومع نزول القوات البريطانية في مصر، تسارعت المضاربات ضد الجنيه الإسترليني في أسواق العملات، وطلب وزير الخزانة البريطاني هارولد ماكميلان المساعدة الفورية من صندوق النقد الدولي، ولكن إدارة أيزنهاور اعترضت ورفضت تلبية طلبه. حتى إن أيزنهاور أصدر تعليماته لوزارة الخزانة الأميركية بالاستعداد لبيع جزء من سندات الحكومة بالجنيه الإسترليني، ليظهر لأنتوني إيدن مدى جديته بشأن وقف العدوان الثلاثي. وعندما أمر الملك سعود بن عبد العزيز بفرض حظر نفطي على بريطانيا وفرنسا، التزم أيزنهاور بكلامه ورفض تعويضهما أو مساعدتهما قبل أن يوقفوا العدوان على مصر.
بعدها بساعات، وفي تمام الساعة الثانية فجراً بتوقيت القاهرة، توقف القتال في قناة السويس يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، وهو يوم فتح صناديق الاقتراع في أميركا. فاز أيزنهاور بولاية رئاسية ثانية، وإن كان بإمكانه يومها التجرؤ في الضغط على إسرائيل وحلفائها في يوم الانتخابات، فيمكن لجو بايدن أن يفعل الشيء نفسه قبل انتخاباته المقبلة.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!