حماس والسير على طريق الختيار

سامي مروان مبيّض (المجلة، 30 أيار 2024)

 

يُحكى أن وفدا من أهالي بيروت الغربية توجه إلى مقر إقامة ياسر عرفات في العاصمة اللبنانية قبل مغادرته البلاد في 30 أغسطس/آب 1982. كان الانسحاب الفلسطيني قد بدأ قبل تسعة أيام، تزامناً مع وصول قوات حفظ سلام دولية إلى المرفأ، من فرنسا أولاُ ثم من إيطاليا والولايات المتحدة الأميركية. كان الغزو الإسرائيلي قد انطلق في مطلع شهر يونيو/حزيران من العام نفسه، وتعرضت بيروت لقصف عنيف، شجع المساعي الدولية على حل الأزمة، ورفع وتيرة المطالبين برحيل الفدائيين الفلسطينيين عن لبنان. دخل أحد مساعدي “الختيار” كما كانوا يسمون عرفات، علما أنه لم يكن عجوزاُ، ولم يكن قد تجاوز الثالثة والخمسين من عمره، ليبلغه أن أهالي بيروت يريدون وداعه، فاستغرب ذلك.

كان عرفات يتحدث بلهجة غزاوية وهو من أهالي القطاع الذي لاقى من القصف منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ما يفوق أضعافاُ مضاعفة كل ما تعرضت له بيروت في حربها الأهلية.

كانت محطة “إن بي سي” الأميركية قد نقلت على لسان أحد مستشاري بنيامين نتنياهو أن إسرائيل لا تُمانع في خروج يحيى السنوار وبقية قادة حماس العسكريين من غزة بالطريقة نفسها التي أخرج بها ياسر عرفات من لبنان، ثم أفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” بأن قيادة حماس السياسية على وشك أن تغادر قطر أيضاُ. وقالت الصحيفة إن ذلك سيسرع عملية تبادل الأسرى، وذكرت أن حماس تواصلت مع بلدين عربيين بحثا عن بديل للمضيف القطري، أحدهما عُمان.

هبت الرياح

صحيح أن عرفات وجد مساحة للضحك مع مساعديه في ذلك اليوم اللاهب من صيف عام 1982، ولكنه بقي متمسكاً بجوهر معركته ورمزيتها. وفي الوقت نفسه كان شديد التألم لما حدث له ولرجاله، وكيفية طردهم من لبنان. قال أحد معاونيه إنه بكى على متن سفينة “أتلانتس” اليونانية وهي تغادر مرفأ بيروت، في لحظة ضعف نادرة من الختيار، “علما أنه لم يكن يبكي إلا على الشهداء”. بكى عرفات مع أن لبنان لم يكن أرضه، ولم تبلغ إقامته فيه إلا 11 سنة فقط لا غير، وكان لوجوده فيه أثر سلبي للغاية على اللبنانيين، فقد أشعل نيران الحرب الأهلية سنة 1975. مع ذلك تأثر جدا وحزن على مغادرة مدينة كان يعدها وطناً ثانياً له ولرجاله، فكيف سيكون موقف حركة حماس إذن في حال أجبرت على مغادرة قطر والقطاع؟

اللحظة الفاصلة في الوجود الفلسطيني في لبنان كان الاتصال الهاتفي الذي تلقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن من الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وقال الأخير إن القتل في لبنان بلغ ذروته وعليه أن يتوقف فورا.

 

أصر عرفات على ارتداء رجاله لباسهم العسكري وأن لا يتخلوا عن سلاحهم الخفيف، وعده جزءا من هويتهم، ورمزا لكرامتهم

 

 

هذه الكلمات السحرية أوقفت قصف بيروت سنة 1982 وهي الجملة التي لم ينطقها بعد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن. وبالفعل، توقف إطلاق النار، وبدأ المبعوث الأميركي فيليب حبيب بمفاوضاته الشهيرة لإخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان.

بعد تردد، دعا عرفات إلى اجتماع للمجلس الفلسطيني العسكري الأعلى، ونقل إليهم الطروحات الأميركية: ترك لبنان والانتقال إلى تونس، مع ضمانات أميركية بأن لا يتم اعتقال أو اغتيال أي شخصية فلسطينية أثناء الانسحاب، وفي مقدمتهم طبعا ياسر عرفات الذي كان في مرمى النيران الإسرائيلية.

بعض القادة الفلسطينيين صوت للانسحاب لتتمكن المقاومة من مراجعة المرحلة اللبنانية وما ارتُكب فيها من أخطاء، وقال آخرون إن رفض الانسحاب سيؤدي إلى تدمير شامل ليس للبنان فحسب، بل للقضية الفلسطينية برمتها. أما عرفات فقد استأذن الرفاق لكي يستخير، وكانت هذه هي عادته منذ القدم. دخل في خلوة وصلى صلاة الاستخارة، ثم فتح القرآن الكريم على صفحة ما لا على التعيين ليستلهم منها العبر والإرشادات. وقعت عيناه على سورة التوبة، وتحديدا على الآية 123: “يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذِينَ يَلُونَكُم منَ الْكُفارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة وَاعْلَمُواْ أَن اللهَ مَعَ الْمُتقِينَ”. ثم خرج “الختيار” إلى رفاقه وقال كلمته الشهيرة: “هبت رياح الجنة”!

 

مر “الختيار” بشوارع بيروت المدمرة، أمام أبنية سكنية بقيت عليها علامات الرصاص سنوات طويلة

 

 

الانسحاب المشرف

عرض فيليب حبيب أن يكون خروج الفلسطينيين بلباس الصليب الأحمر الدولي، وأن يُنقلوا برا إلى سوريا، ولكن عرفات رفض العرض بشكل قاطع. كان الخروج من لبنان بالنسبة له ذا أهمية معنوية وعاطفية بالغة جداً، أراده أن يكون مثالياً ومنظماً ومشرفاً في الوقت نفسه. أصر على ارتداء رجاله لباسهم العسكري وأن لا يتخلوا عن سلاحهم الخفيف، وعده جزءا من هويتهم، ورمزاً لكرامتهم.

أبلغ قراره التاريخي بالانسحاب حلفاءه اللبنانيين، وكان من ضمنهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس الحكومة الأسبق صائب سلام، والحالي شفيق الوزان، وبالتعاون والتنسيق معهم أشرف على خروج قواته من بيروت أفواجا على متن سفن قبرصية، ابتداء من 21 أغسطس 1982. الكثير منهم كانوا يرتدون بدلاتهم العسكرية، مع طوق من الورد الأبيض على أعناقهم، رافعين بنادقهم في السماء، ومعها شعار النصر لكي يراه مئات الصحافيين الأجانب الذين قدموا إلى بيروت لتغطية الحدث التاريخي. هل كان حقا انتصاراً؟ جميعهم كانوا يعلمون أنه ليس انتصاراً وعرفات نفسه كان يعلم ذلك قبل الجميع.

عرفات وإلى جانبه وليد جنبلاط ونبيه بري قبل مغادرة الزعيم الفلسطيني بيروت المحاصرة في 30 أغسطس (آب) 1982 (غيتي)

عرفات وإلى جانبه وليد جنبلاط ونبيه بري قبل مغادرة الزعيم الفلسطيني بيروت المحاصرة في 30 أغسطس (آب) 1982 (غيتي)

رأى بعضهم أن ذلك اليوم سيكون نهاية العمل العسكري الفلسطيني، وقال مهندس الاجتياح وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون إن الفلسطينيين تلقوا “هزيمة ساحقة، سيكون من الصعب التعافي منها”. بعد إبعاد عرفات عن سوريا أولاً، وطرده من الأردن في أعقاب أحداث أيلول الأسود، والآن من لبنان، لم يبق أمامه أي مكان في الدول المحيطة بإسرائيل، المعروفة بـ”دول الطوق”. كان السفر إلى تونس البعيدة أقرب إلى المنفى، أو إلى عقاب طويل ومفتوح. ولكنه حافظ على رباطة جأشه، وبقي في بيروت حتى مغادرة آخر المقاتلين المتفق عليهم، وكأنه قبطان سفينة، لا يترك مركبه الغارق إلا بعد التأكد من سلامة الركاب كلهم.

مر “الختيار” بشوارع بيروت المدمرة، أمام أبنية سكنية بقيت عليها علامات الرصاص سنوات طويلة. وكلما مر أمام جمع من الفلسطينيين أو المؤيدين هتفوا باسمه، وأطلقوا الرصاص الطائش في الهواء، تحية وداع له. لبس فوق بدلته العسكرية كوفيته المعروفة المتدلية على شكل خارطة فلسطين، وكأنه جنرال منتصر عائد من أرض المعركة.

كانت عيناه تشعان، والابتسامة لا تفارق وجهه، وعندما سأله أحد الصحافيين: “أبو عمار… وين رح تروح؟” أجاب “الختيار” بثقة كاملة: “إلى فلسطين”!

استهزأ كثيرون بجملته يومئذ، قبل أن تصدق نبوءته عندما عاد إلى فلسطين بالفعل سنة 1994 – ليس إلى فلسطين كلها، ولا نصفها حتى، بل إلى جزء صغير منها أعيد للفلسطينيين بعد التوقيع على اتفاق أوسلو في 1993.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *