تلوين المدن

سامي مروان مبيّض (الأهرام، 1 كانون الأول 2021)

 

ربط المدن بألوان قد يبدو غريباً فى عالمنا العربى، وبالنسبة لكثير من الناس هو لا يتعدى الترف الثقافي. ولكن هذا العرف متبع فى الكثير من مدن العالم، فمدينة الضباب لندن مثلاً، تُعرف باللون الرمادى الذى يسود سماءها ونهرها الشهير، إضافة للون الذهبى الذى يزين قصورها وكاتدرائياتها. وعرفت مدينة نيويورك باللون البنى بعد حريقها الكبير عام 1835، عندما قام أهلها بإعادة بنائها من الحجر البني. اللون يؤثر نفسياً ومعنوياً على قاطنى أى مدينة، ومع الوقت، يؤثر أيضاً على سلوكهم وحياتهم اليومية .وفى باريس مثلاً رفع مناصروا عائلة بوربون الحاكمة اللون الأبيض، بعد أن أطاحت الثورة الفرنسية بملكتهم سنة 1789، وكان الأبيض رمزاً لمناصرى قيصر روسيا نقولا الثانى بعد الثورة البلشفية التى اعتنقت اللون الأحمر، فصار هناك راية حمراء، وجيش أحمر. وفى الهند أطلق على مدينة جايبور لقب المدينة الزهرية لأنها لوّنت بهذا اللون الزاهى سنة 1876، عند استقبالها لأمير ويلز القادم من لندن.

ماذا لو قررنا تلوين مدننا العربية؟ ماذا سيكون لون القاهرة مثلاً أو بغداد؟ هل يكون الأزرق نسبة للنيل العظيم أم الذهبى نسبة لأجنحة النسر الشامخ فى شعار الدولة المصرية؟ وهل يكون الأحمر هو لون بغداد، نسبة لشهداء العراق، أم البني، نسبة لأبواب المدينة؟ وماذا عن دمشق؟ لو كان الأمر بيدي، لاخترت اللون الأبيض لمدينتي، لأنه لون وجبة الطعام التى كانت جدتى تحضره فى رأس السنة الهجرية. كان أهالى دمشق يتفاءلون بهذا اللون كثيراً، ويطلقونه على طعامهم أملاً أن تكون سنتهم بيضاء.

الأبيض يليك بها

ذات يوم، كان رجالنا فى دمشق يرتدون الأبيض الناصع فى مآتمهم تعبيراً عن الحزن، رمزاً للطهارة فى وداع الأحبة، وهم يغادرون هذه الدنيا بكفن أبيض. تغيرت هذه العادة منذ زمن بعيد، وصار الأسود هو لون الحزن المتعارف عليه عالمياً، الذى درج فى بلادنا قادماً من أوروبا. حتى أن المرحوم الشيخ على الدقر، وهو أحد أشهر علماء دمشق فى النصف الأول من القرن العشرين، اختار اللون الأبيض لحجاب المرأة الدمشقية، لإظهار تباعده مع اللون الأسود المتبع أيام العثمانيين، والذى كان مزعجاً للغاية فى أشهر الصيف اللاهب. كما أن علماء دمشق، وتحديدا أصحاب المراتب العلمية العليا، كانوا يلبسون اللفّة البيضاء على رءوسهم، ليتميزوا عن الأسر المنسوبة إلى رسول الله التى تعتمر اللفة الخضراء، أو عن القضاة، أصحاب لفّة لاماليف المزركشة، أو عن التجار، بلفتهم الأغبانى ذات اللون العسلي.

ولقد ساد اللون الأبيض على اللباس الرسمى لنواب سورية فى افتتاح كل المجالس النيابية التى سبقت قيام الوحدة مع مصر، لدرجة أنها أصبحت عُرفاً غير مكتوب، التزم به جميع أعيان البلاد ورموزها الوطنية. كان الأبيض موضة فى حينها…فى فساتين النساء، وفى قبعات الرجال، وبدلاتهم وأحذيتهم…حتى فى لون عجلات السيارات القديمة التى كان أصحابها يقومون بتلميعها وتنظيفها صبحا وظهراً ومساء. كان البياض، ولو بشكل غير مباشر، هو لون مدينة دمشق فى زمن مضي، فهو لون ياسمينها وفلّها، وقد تحدث عنه الشاعر الكبير نزار قبانى قائلاً: “والفل يبدأ من دمشق بياضه، وبعطرها تتطيب الأطيابُ، والحب يبدأ من دمشق فأهلنا، عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا.”

والأبيض هو لون القسم الأوسط من العلم السورى بكل عصوره، رمزاً إلى الدولة الأموية التى اتخذت من دمشق مركزاً لها وحكمت من خلالها العالم. وقد تغيّر هذا اللون مع انهيار الدولة الأموية وصعود العباسيين، علما بأن الأبيض كان لون راية الرسول فى جميع معارك الإسلام الأولى. وهو لون السلام الذى رفعه المسلمون الأوائل عند فتح مكة، حيث قال رسول الله كلمته الشهيرة: “من دخل دار أبى سفيان، فهو آمن.”

أما عن اللون الأسود، وقد تمت مصادرته أخيراً عند اتخاذه علماً رسمياً للتنظيمات التكفيرية، ومنها طبعا تنظيم داعش الإرهابى. وخلال فترة حكمهم فى مدينة الرقة السورية، كان أعضاء التنظيم يطلون أبنيتهم وراياتهم باللون الأسود، وكان أميرهم وخليفتهم المزعوم أبو بكر البغدادى لا يرتدى إلّا الأسود. بعد أن كان اللون الأسود هو اللون المعتمد للحزب الفاشى فى إيطاليا أيام موسولينى، صار مكروها فى بلادنا وفى الغرب أيضاً، حيث يذكر الناس بقطع الرءوس وعيش الكهوف وممارسات وحشية لا تمت إلى دين الإسلام بصلة. ولو كنت مسئولاً فى بلدي، لمنعت تداول اللون الأسود منعاً باتاً، لأنه يذكرنا بسنوات الموت والحزن، عندما أصبح لباساً موحداً لجميع نسائنا. نعم هو لون الموت، ولباس خفافيش الليل البشرية.

بحسب الفنانين والمعماريين والأطباء النفسيين، فإن اللون الأبيض يرمز إلى البداية والكمال، إلى الطيبة والصدق، إلى النظافة والحياد والطهارة والعذرية. بابا الفاتيكان لبس الثوب الأبيض الناصع منذ عام 1566، وكان الأبيض ولا يزال هو لون لباس حجاج بيت الله الحرام، ولون المواطنة فى زمن الرومان. لعله يعود، لوناً للمواطنة فى سورية ومصر، فقد اتفق عليه السوريون والمصريون سنة 1958، عند وضع تصميم علم جمهوريتهم المتحدة، وهو قادر على جمعهم مجدداً اليوم لما فيه من تفاؤل فى مستقبل أفضل لكلا البلدين.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *