الملك عبد العزيز وأحداث نكبة فلسطين

سامي مروان مبيّص (المجلة، 15 أيار 2024)

 

في مذكراته، يصف رئيس الحكومة السورية الأسبق خالد العظم أول لقاء جمعه بالملك عبد العزيز آل سعود في الرياض، قبل وقوع نكبة فلسطين سنة 1948:

دخلنا البهو الكبير فرأينا الملك جالساً على مقعد بزاوية الصدر اليسرى، وإلى جانبه منضدة فوقها آلة هاتف. تقدمنا إليه، فانتصب واقفاً بقامته الطويلة، ورحب بقدومنا، وأجلسنا إلى جانبه. وقد جلب انتباهي أن الأمراء أبناء الملك لم يجلسوا بجانبه، بل بجانب الباب بعيدين. كان الملك يجلس على كرسيه، وينظر إلى الجميع، يؤانسهم بالكلام، ويتحفهم بيده الكريمة (بالطعام). وبعدها يستمع إلى أخبار الساعة من ثلاثة موظفين يجلسون أمامه، أولهم لنقل أخبار القاهرة، والثاني لنقل أخبار لندن، والثالث لنقل أخبار برلين. وكان الملك يوقف القارئ بين الفترة والأخرى ليعلق على الخبر، ذاكراً ملابساته ونتائجه.

كانت الأخبار كلها تتحدث عن مظاهرات عارمة تطوف شوارع دمشق على أبواب السفارتين الأميركية والسوفياتية، وأخرى في القاهرة أحرقت مركزا بريطانياً في منطقة الزقازيق، مع مقتل 75 يهودياً في عدن رداً على تجاوزات العصابات الصهيونية ومجازرها في فلسطين. يوم 9 أبريل/نيسان وقعت مجزرة دير ياسين الشهيرة غرب القدس، قتل الصهاينة فيها 245 فلسطينياً من المدنيين العزل، وفي الثالث عشر من الشهر نفسه، تقدموا باتجاه مدينة صفد، ومن ثم حيفا ويافا.

تأسيس جيش الإنقاذ

كان الملك عبد العزيز يستشيط غضباً من هذه الأنباء، ويدعو إلى نصرة فوزي القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ الذي عرفه جيداً مذ جاء المملكة لاجئاً سياسياً، وكلف بتدريب الجيش السعودي سنة 1928. وكانت فكرة جيش الإنقاذ بالأساس هي فكرته، بالتشاور مع الرئيس السوري شكري القوتلي، وقد اختار القاوقجي لقيادته لما عرف عنه من شجاعة ورباطة جأش. أراد الملك عبد العزيز تسميته “جيش نصرة المسلمين” ولكن الملك فاروق قال له إن الجيش سيكون مؤلفاً من متطوعين مسيحيين أيضاً، واقترح اسم “جيش تحرير فلسطين.” وفي النهاية اعتمد اسم جيش الإنقاذ الذي كان الرئيس القوتلي قد اقترحه وتطوع لإقامة معسكراته في ريف دمشق.

 

كان الملك عبد العزيز يدعو إلى نصرة قائد “جيش الإنقاذ” فوزي القاوقجي، الذي عرفه جيدا مذ دخل المملكة لاجئا سياسيا، وكلف بتدريب الجيش السعودي سنة 1928

 

تمويل القتال

سأل الملك زواره السوريين عن الثلاثة آلاف بندقية التي كان قد وعد بها مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، فقالوا له إن المفتي لم يكن صادقاً في وعده، فلم يقدم إلا 200 بندقية، لا تصلح منها إلا 25. عرض الملك السعودي تسديد العجز وفي 22 يناير/كانون الثاني 1948 وصل الرياض لمتابعة الموضوع الدكتور محسن البرازي، أمين عام الرئاسة السورية. كتب في مذكراته: “صرح لي جلالته أن السلاح جاهز في الصناديق، وأنه سيُشحن قريباً إلى مصر حيث تقوم الحكومة المصرية بإيصاله إلى فلسطين”.

“ولماذا مصر؟” سأل البرازي باستغراب، معللاً أن بإمكان السعودية إرساله عبر الأردن، فقال له الملك إنه لا يريد إحراج  الملك عبد الله، الذي كان على خلاف مع السعودية. ثم نادى الملك نجله الأمير  فيصل، الذي قال للبرازي إن الدعم السعودي سيكون عبارة عن ألف بندقية إنكليزية، مع 500 طلقة، وعشرة صناديق عتاد. وقدم للسوريين، بحسب قول الضابط العراقي طه الهاشمي، مبلغاً وفيرا من المال لتوزيعه على المجاهدين بمعرفة الرئيس القوتلي وإشرافه. ثم التفت الأمير  فيصل إلى ضيفه وقال بكل تواضع: “ربما لم نسدد بعد ما علينا؟”، أي لم نقم بالواجب. قال له البرازي إن المملكة سددت ما عليها وأكثر، واقتطع من المبلغ المذكور سبعة آلاف جنيه لتوزيعها على القبائل العربية.

 

 (أ.ف.ب)

قائد جيش الإنقاذ فوزي القاوقجي لدى وصوله إلى الأراضي الفلسطينية في 8 مارس 1948

 

وكان العاهل السعودي قد استصدر قراراً من جامعة الدول العربية لأجل جيش الإنقاذ، وكان يُريد أن تكون هزيمته جماعية – إن وقعت – ونصره أيضاً جماعيا لكل العرب. أما رؤساء سوريا ولبنان، فلم يقم أي منهما بحمل سلاح في حياته وكانت خبرة الملك فاروق منحصرة في جمع البنادق والمسدسات النفيسة، إضافة إلى التمرين القليل الذي حصل عليه أثناء دراسته في إنكلترا. وكان الملك عبد العزيز (بخبرته الطويلة في قيادة حروب توحيد المملكة العربية السعودية ثلاثين عاماً وانتصر) لا يريد وقوعهم – فاروق والقوتلي وبشارة الخوري – تحت تأثير ضباطهم المتحمسين للقتال، دون أن تكون خياراتهم العسكرية مدروسة. كان مدركاً أن الجيوش العربية ضعيفة، ومن الممكن جداً أن تهزم لكونها فتية وحديثة المنشأ. وكانت تجمع الملك عبد العزيز علاقة ممتازة بالقوتلي وفاروق. حتى إن فكرة جامعة الدول العربية كانت قد تبلورت في الاجتماع الذي عقد بين الملك عبد العزيز وفاروق في شرم ينبع القريب من مياه ينبع قبل سنوات، المعروف بقمة الرضوى. حضر هذا الاجتماع كريم ثابت، مستشار الملك فاروق الصحافي، وعلّق عليه بالقول: “بلغ من شدة حرص فاروق على مضيفه وكسب صداقته ومودته أنه لم يمسك عن التدخين في مجلسه وحده، بل امتنع عنه حتى في خلوته وفي خيمته كذلك، إذ بلغه أن الملك عبد العزيز ينفر من رائحة الدخان حتى إذا كانت عالقة بالملابس”.

 

قدّم الملك عبد العزيز للسوريين، بحسب قول الضابط العراقي طه الهاشمي، مبلغا وفيرا من المال لتوزيعه على المجاهدين بمعرفة الرئيس القوتلي وإشرافه. ثم التفت الأمير فيصل إلى ضيفه وقال بكل تواضع: “ربما لم نسدد بعد ما علينا؟”، أي لم نقم بالواجب؟

 

 

علاقة الملك عبد العزيز بالعروبة وبالقضية الفلسطينية لم تكن وليدة حرب عام 1948 إنما متجذّرة به. في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، أي قبل أيام من صدور قرار تقسيم فلسطين، استقبل في الرياض لجنة مؤلفة من 12 شخصية أميركية وبريطانية، جاءوا للوقوف على الأوضاع الفلسطينية الداخلية. كانت برئاسة القاضي البريطاني السير جون سنغلتون وعضوية أديب أميركي، وأحد مدرسي جامعة برينستون. لم يتمالك الملك غضبه إزاء ما يحصل في فلسطين، ثم عاد وتمالك أعصابه، داعيا اللجنة الدولية للتحلي بالحيادية وبأن تنصف الشعب الفلسطيني، ثم قدم لكل واحد منهم خنجراً، مع ممازحة سنغلتون بأنه على استعداد لإيجاد زوجة له، لأن ترجمة اسمه باللغة العربية تعني “الأعَزَب”. ساندت السعودية المجموعة العربية في الأمم المتحدة، وصوتت ضد قرار التقسيم، وعند اتخاذ القرار رغما عنهم، انسحب مندوبها الأمير  فيصل من الجلسة غاضباً، ومعه مندوب سورية فارس الخوري.

تقارير كاذبة

قُدر عدد القوات العربية المشتركة بعشرين ألف مقاتل، وكانت المشاركة الأكبر من مصر (5500 مقاتل)، يليها الأردن (4500)، ومن ثم سورية والعراق (ما مجموعه 6000)، واقتصرت المشاركة اللبنانية على ألفي جندي فقط. وكانت هذه الأرقام، كما تنبأ الملك السعودي، أقل بكثير من الأرقام الأولية التي وعدت بها الدول العربية، والتي كان من المفترض أن تصل إلى 165 ألف جندي عربي. وأن يوضع تحت تصرف الجيش 47 طائرة حربية، و400 دبابة، و300 سيارة مدرعة، و140 بندقية ميدان، و220 مضاد طائرات. أما القوات الصهيونية فقد بلغت 65 ألف مقاتل في يوليو/تموز 1948، وصلت إلى 88 ألفاً بحلول شهر أكتوبر/تشرين الأول وفاقت المئة ألف في مطلع عام 1949. أي إن 13 في المئة من الإسرائيليين باتوا مشاركين في الحرب، بطريقة أو أخرى، وكانت الجاليات اليهودية في أوروبا وأميركا قد جمعت 129 مليون دولار لأجل المجهود الحربي الإسرائيلي، استخدم منها 78 مليوناً لشراء أحدث المعدات والأسلحة للجيش الإسرائيلي.

 

 (أ.ف.ب)

جنود من “الفيلق العربي” في الجانب الشرقي من القدس أثناء القتال ضد عناصر من “الهاغاناه” الإسرائيلية في 6 مارس 1948

وعندما حانت لحظة الحسم مع انتهاء الانتداب البريطاني وقرب إعلان ديفيد بن غوريون ولادة دولة إسرائيل في 14 مايو/أيار 1948، بدأت تصل تقارير كاذبة من قادة الجيوش إلى الملوك والرؤساء العرب، تصب كلها على طاولة الملك عبد العزيز في الرياض. “سنلقيهم في البحر” قال أحد ضباط الجيش المصري للملك فاروق، بينما وعد الضباط السوريون بتحرير فلسطين كلها قبل نهاية عام 1948. “نحن نملك طيراناً حربياً واليهود ليس عندهم أية طائرات”، قال أحد قادة الجيش السوري للرئيس القوتلي.

أقرت خطة حربية لهجوم مشترك على مدى 11 يوماً، وضعها الضابط الأردني وصفي التل (الذي قتل في أعقاب أحداث أيلول الأسود سنة 1970) وكانت تدعو الجيش اللبناني للدخول من منطقة رأس الناقورة باتجاه مدينة عكا، ودخول القوات السورية من بنت جبيل باتجاه مدينة سمخ، ليلتقيا في مدينة عفولة جنوب الناصرة. أما قوات الجيش العراقي، فقد أمرت الخطة بأن تتوجه إلى مدينة بيسان شمال شرقي القدس، وتتولى القوات الأردنية الدفاع عن اللد والرملة والقدس. عُرضت الخطة على اجتماع رؤساء الأركان في القاهرة ليلة 29-30 أبريل/نيسان وأقرت رسمياً في 12 مايو/أيار 1948.

لم تعجب  الخطة الملك عبد العزيز البتة. قدمت السعودية التمويل للجيوش العربية، وأرسلت أيضاً قوة من المتطوعين السعوديين للقتال في سبيل فلسطين. انتهت الحرب – كما هو معروف جيداً – بهزيمة العرب، وضياع فلسطين، ومقتل ستة آلاف مجاهد عربي، تحملت سورية ومصر حصة الأسد من شهدائها، أحرقت 400 قرية وبلدة فلسطينية، وطرد ما يفوق مليون مواطن فلسطيني، أصبحوا لاجئين في سورية ولبنان والأردن. وكما قال الملك عبد العزيز: العرب لم يكونوا جاهزين للحرب، ولا حتى للهزيمة.

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *