الطلب التعجيزي
سامي مروان مبيّض (دمشق، 9 تشرين الثاني 2020)
دخلتُ على إحدى أكبر متاجر العطور في باريس، فاستقبلتني موظفة وسألت عن طلبي. قُلت لها: “أريد عطراً نفيساً…ابحث عنه منذ زمن بعيد ولا أعرف مدى إمكانية استحضاره.” أجابت بكل ثقة: “تفضل يا سيدي…نحن صنّاع أفخر العطور بالعالم، ما هو طلبك؟”
“رائحة شتاء الشّام أيام زمان…”
طلبتُ منها قارورة عِطرٍ، فيها رائحة بيت جدّي في نهاية تشرين ومطلع كوانين…رائحة “الدفى” في بيوتنا القديمة، المتأثرة بلهيب صوبية الحطب الممزوجة مع رائحة الخشب و”النفتالين” التي كانت تفوح من السجاد المُمتد على طول الدار وعرضها مع هطول المطرة الأولى.
استغربت هذه السيدة الباريزية طلبي وقالت: “نفتالين وسجّاد وصوبيا…هل أنت مجنون؟”
أجبتها مُبتسماً: “معك حق، قد يبدو طلبي غريباً، فمن لا يعرف دِمَشق لا يمكنه معرفة رائحة بيوتها في فصل الشتاء. لا، لست مجنوناً. أنت لا تعرفين صوبية بيت جدّي يا آنسة، كانت صوبيا سوداء بورسلان مُزينة بنثرات من اللون الأبيض. كنتُ أقفُ أمام نافذتها المستديرة الصغيرة وأنا طفلٌ، أشاهدُ ألسنة اللهب تتصاعد من داخلها. كنّا نستخدمها لتحميص الخبز، وتسخين برّاد الشاي، ونضع فوقها قشر البرتقال، لتفوح رائحته في الحجرة.”
نظرت إليّ بمزيد من التعجب، فأكملت كلامي قائلاً: “كانت هذه الصوبيا رفيقة صبانا، نعانقها عند العودة من المدرسة، ونحن مُبللين من رأسنا حتى القدمين. أذكرها وكأنها أمامي الآن وأكاد أسمع صوت فيروز وهي تُغني “يا حبيبي الهوى غلّاب…عجّل وتعى، السنة ورا الباب!”
“عذراً سيدي، لا أملك هذا العطر ولم أسمع به في حياتي. هل لك من طلب آخر؟”
صفنت قليلاً ثمّ قلت لها: “من ذكريات الصبا والشتاء الدمشقي…عيشة خانم والكلاوي، ستي زبئي وأبو بسطي.”
ابتسمت وقالت: “لديّ صديقة عربية ونعم لقد سمعت بهذه الأسماء من قبل…أليست شخصيات من مسلسلكم الشهير “باب الحارة؟”
“لا يا سيدتي لا، ليست من باب الحارة، هذه وجبات شهيّة كانت تُحضرها جدتي مع بداية فصل الشتاء، ولها رائحة نفيسة لا تُنسى أبداً.”
اعتذرت مُجدداً وطلبت مني…للمرة الثالثة…أن أختار عطر عالمي، عطر منطقي وقابل للاستحضار. فقلت لها: “أذكر رائحة شراشف أمي جيداً، الممتزجة برائحة صابون الغار أو بقايا الصابون العادي. كان أهلنا بدِمَشق متناهين بالحرص، يجمعون بروات الصابون في لحظاته الأخيرة ويدمجونها بشكل غريب وعجيب، فيه الأصفر والأخضر والأزرق، تُستخدم إما لغسيل اليدين أو تُضع تحت الوسادة أو بين الشراشف.”
ووجدت نفسي مُبحراً في شريطِ طويلٍ من الذكريات الملوّنة، أحدثها عن دِمَشق… عن فيروز وصوبية بيت جدّي، عن النفتالين والسجّاد، عن “تعسيلة” أبي بعد الظهيرة، عن سهرات المساء على القناة الأولى التي كانت تودعنا ببرنامج غداً نلتقي، مع تحية العلم يليها شارة مستديرة متعددة الألوان. وكيف أذكر شتاء دِمَشق ولا أتذكر جدّي الجميل، معانقاً مذياعه الصغير في الفراش، وهو يستمع إلى “إذاعة لندن” لمعرفة ما كان يحدُث في عالمنا العربي. كان له رائحة أيضاً، رائحة جسد طيّب، لا يمكنني أن أنساها.
خرجت من عندها مليء الجيب ولكن مكسور الخاطر، لأنني لم أجد طلبي، لا عندها في باريس ولا في دِمَشق الحبيبة التي لم أغادرها، ومازلت أبحث في زواياها عن رائحتها القديمة، وأنا مُدرك أني لن أجدها أبداً.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!