البعض لا يزال يُمجد موسوليني…. في الذكرى 79 لوفاته

سامي مروان مبيّض (المجلة، 3 أيار 2024)

في الأسبوع الأخير من شهر أبريل/نيسان 1945 وبفارق 48 ساعة، لقي كل من بنيتو موسوليني وأدولف هتلر مصرعهما في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. كان موسوليني قد حكم إيطاليا بصفته رئيسا للحكومة منذ سنة 1922، وعرف جماهيريا باسم “الدوتشي” (القائد). كانت له شعبية منقطعة النظير، تراجعت بشكل كبير إبان تحالفه مع هتلر، وبعد غزو الحلفاء لجزيرة صقلية، صدر قرار من ملك إيطاليا إيمانويل الثالث بعزله ووضعه قيد الإقامة الجبرية في سلسلة جبال الأبينيني في يوليو/تموز 1943.

بعدها بشهرين، تدخل هتلر لإطلاق سراحه عبر عملية استخباراتية دقيقة، ونصب موسوليني حاكماً إقليمياً على الجمهورية الإيطالية الاشتراكية شمالي البلاد، المدعومة من الرايخ الثالث في برلين. وعندما اقتربت قوات الحلفاء من مدينة ميلانو التي كان يتخذها موسوليني مقرا له، حاول الهروب إلى سويسرا في سيارة ألفا روميو رياضية مع عشيقته كلارا بيتاشي. لبس خوذة عسكرية مع معطف حربي كان يرتديه الجنود الألمان، أملا في إخفاء معالم وجهه المعروف جدا لكل الإيطاليين. كان وجه “الدوتشي” يملأ كل مكان في إيطاليا منذ مطلع العشرينات: الشوارع والساحات العامة، دور السينما، الصحف اليومية، حتى النقود المعدنية كانت تحمل رسمه. لم ينفعه التنكر فاعتُقل مع عشيقته وأعدما رمياً بالرصاص في قرية صغيرة على شاطئ بحيرة كومو في 28 أبريل/نيسان 1945.

كانت تصفية سريعة، خوفا من تدخل جديد من هتلر لإطلاق سراحه كما فعل سنة 1943. نُشرت صورهما معلقين من أرجلهما على قضيب معدني في محطة وقود بميلانو، وقد أزعجت أدولف هتلر كثيراً، فصمم أن لا يعطي الحلفاء شرف اعتقاله وإعدامه بشكل مماثل… بعد يومين من مقتل موسوليني، انتحر الزعيم الألماني في ملجئه ببرلين، ومعه عشيقته إيفا براون التي تزوجها قبل ساعات من وفاته. أنهت براون حياتها بتناول جرعة من السم بينما أطلق هتلر النار على نفسه من مسدسه الحربي في 30 أبريل 1945.

جثمانا هتلر وموسوليني

مصير جثماني موسوليني وهتلر لم يقلّ فظاعة عن حياتيهما وطريقة وفاتهما. أمر هتلر أن تُلف جثته وجثة إيفا براون بسجادة، وأن تنقل إلى الحديقة الواقعة خلف الملجأ لتحرق بالبنزين. أما جثة موسوليني وعشيقته، فقد ألقيت في ركن من ساحة عامة وسط ميلانو، تحول اليوم إلى أحد فروع مطعم ماكدونالدز الأميركي للوجبات السريعة. قبل أشهر كان موسوليني قد ألقى بجثث أعدائه في المكان نفسه، ونزل الإيطاليون للانتقام منه، يرمون جثته بالخضراوات الفاسدة، ويركلونها بأرجلهم. حتى إنّ سيدة أفرغت مخزون مسدسها في جسده، وقالت: “خمس رصاصات لأبنائي الخمسة الذين أعدمتهم”. دُفنت الجثة في قبر مجهول حتى سنة 1946 يوم تعرف أحد المهووسين على المكان، فأخرجها من الحفرة، وغسّلها ثم ترك رسالة تقول: “أخيراً أيها القائد، لقد عدت لنا”.

بعد غزو الحلفاء لجزيرة صقلية، صدر قرار من ملك إيطاليا إيمانويل الثالث بعزله ووضعه قيد الإقامة الجبرية في سلسلة جبال الأبينيني في يوليو 1943

 

 

بقيت جثة موسوليني مخطوفة طيلة أربعة أشهر، قبل العثور عليها في خزانة دير خارج مدينة ميلانو في شهر أغسطس/آب عام 1946. كتمت الحكومة الإيطالية مكان دفنها الجديد حتى سنة 1957، إلى أن أعاد رئيس الحكومة أدوني زولي رفاة موسوليني إلى أرملته راشيل غيدي. سمحت السلطات الإيطالية بدفنه رسمياً وعلنيا في مسقط رأسه ببلدة بريدابيو الريفية، أما زوجته وبعد اعتقال سريع، فقد أطلق سراحها، وسمح لها بالعيش الحر في إيطاليا. ففتحت مطعماً صغيراً، وحصلت على معاش تقاعدي من الدولة الإيطالية سنة 1975، قبل أربع سنوات من وفاتها. وكانت الحكومة الأميركية قد أعادت لها عينة من دماغ زوجها، أُخذت قبل دفنه بهدف إثبات أنه كان رجلاً مجنوناً، ولكنها لم تعثر على شيء يثبت هذه المزاعم.

الانتقال إلى عام 2024

يُحيي أنصار موسوليني وهتلر سنة 2025 الذكرى الثمانين لمقتلهما، وبينما ستطبّق السلطات الألمانية قانوناً صارماً يحرّم إظهار أي تعاطف مع العهد النازي، يبقى هذا الأمر فضفاضاً في إيطاليا بالنسبة للتعامل مع موسوليني والمرحلة الفاشية. حفيدته ألسندرا – وعمرها 62 سنة – تعمل في السياسة وقد انتخبت نائباً في البرلمان الإيطالي والأوروبي، وعملت ممثلة مدة قصيرة أيضاً، بتشجيع من خالتها الممثلة الإيطالية العالمية صوفيا لورين (كانت شقيقة لورين متزوجة من رومانو ابن بنيتو موسوليني).

 أ ف ب

فيتوريا وأروسولا موسوليني حفيدتا “الدوتشي” مع مشاركين في تجمع أمام مقبرة بريدابيو في 30 أكتوبر 2022الأهم من كل ذلك كان وصول جورجيا ميلوني إلى رئاسة الحكومة الإيطالية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وهي رئيسة حزب سليل للحزب الفاشي الذي قاده موسوليني في النصف الأول من القرن العشرين. وكان حزبها إخوة إيطاليا قد ولد من رحم الحركة الاشتراكية الإيطالية التي أسسها جورجيو ألميرانتي، المسؤول في وزارة الثقافة الإيطالية في زمن موسوليني. وهذا ما يجعل الحزب الحاكم في روما اليوم حفيدا للحزب الحاكم في الأربعينات، علماً أن ميلوني ترفض اتهامها بالفاشية، وتقول إن حزبها متطرف في وطنيته، ومحافظ في سياساته الداخلية والخارجية، ينبذ الهجرة إلى إيطاليا. لا تخفي ميلوني أنها مهتمة بتلك المرحلة من تاريخ بلادها، وكذلك رئيس البرلمان إغناسيو لا روسا الذي يحتفظ بتمثال نصفي لموسوليني في منزله، وكان والده سكرتيرا للحزب الفاشي في عهد “الدوتشي.”

 

الحزب الحاكم في روما اليوم حفيد للحزب الحاكم في الأربعينات، علما أن رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني ترفض اتهامها بالفاشية

 

 

في روما اليوم ركن خاص بموسوليني في مطعم سيرينو الذي كان يتردد عليه، ويمكن للزبائن طلب زجاجات نبيذ تحمل رسمه وهم جالسون أمام صوره. بعضهم يدفع نقوداً لقضاء ليلة واحدة في المكان الذي قضى فيه موسوليني آخر أيامه في ميلانو، بينما يزور آخرون الملجأ الخاص به تحت فيلا تورلونيا في العاصمة الإيطالية، الذي فُتح أمام السيّاح بعد تجديده في أكتوبر/تشرين الأول 2014.  وفي مسقط رأسه في بلدة بريدابيو تنشط سياحة كاملة مخصّصة له، تُباع فيها تماثيل موسوليني، ومناشف موسوليني، وكؤوس موسوليني، مع لوحات جدارية وكنزات عليها عبارته الشهيرة: “سأمضي إلى الأمام،” هذا على الرغم من وجود قانون في إيطاليا منذ سنة 1952 يمنع عرض الشعارات الفاشيّة في العلن، وقد أضيفت إليه بنود تقضي بالاعتقال في حال استعملت هذه الشعارات لأغراض سياسية.

متحف موسوليني

في 2016-2017 طُرحت جديا فكرة إقامة متحف خاص بموسوليني في مقر للحزب الفاشي القديم والمتهالك في بريدابيو . الهدف منه لم يكن تخليد المرحلة وتمجيدها بل لإظهار مساوئها، أملاً بإقناع آلاف الأنصار بالتخي عن حبهم لموسوليني. أوقف المشروع سنة 2020 ولكن متحفاً مماثلاً افتتح قبل عام في بلدة سالو على بحيرة غاردا، التي حكم منها موسوليني من سنة 1943 ولغاية عام 1945. يتبع المتحف وزارة الثقافة الإيطالية، وفيه تعرض قصاصات من الصحف الإيطالية في العهد الفاشي، مع صور لموسوليني وخطابات، وقد بلغت قيمة إنشائه 230 ألف يورو.

 “عد يا موسوليني”

حالة الإعجاب بموسوليني وصلت إلى حدّ العبادة عند بعضهم، وقبل سنوات، بيعت بالمزاد على موقع  ايباي الخزانة التي وضعت فيها جثته لسنوات، وقد خرج مئات من أنصاره في مظاهرة كبيرة في حيّ شعبي شهر يناير/كانون الثاني الماضي، يرفعون ذراعهم اليسرى إلى الأمام على الطريقة الفاشية. الشرطة الإيطالية كانت حاضرة ولم تتدخل لإيقافهم، وبين الفينة والأخرى، يكتب هؤلاء الفاشيون الجدد المعروفون عبارات فاشية على الجدران، ويهاجمون المهاجرين الغرباء المقيمين في إيطاليا. وفي كل عام، يزورون قبر موسوليني مرتين: في ذكرى زحفه على روما سنة 1922، وذكرى وفاته سنة 1945.

قبل عام واحد، زعمت الصحف الإيطالية أنّ عددهم تراجع، ولم يتجاوز 100 شخص، وهو مخالف لما أوردته وكالة أسوشييتد برس سنة 2022، يوم قالت إنّ عدد المشاركين في ذكرى وفاة موسوليني وصل إلى ما بين 2000-4000 شخص، جاءوا من مختلف أرجاء أوروبا وإيطاليا “حتّى من الولايات المتّحدة”. وجرت العادة أن تستقبلهم حفيدات موسوليني ويتحدثن معهم وسط صيحات “دوتشي…دوتشي” التي كان أجدادهم يرددونها قبل ثمانية عقود. وعند الانتهاء من إحياء الذكرى، تقدم الحفيدات للأنصار بطاقات تذكارية موقعة، وعليها صورة موسوليني مبتسما مع عبارة: “التاريخ سيقول إنّي كنت على حق.” وقد نشطت حفيدات موسوليني مؤخراً في إحياء ذكراه والمدافعة عنه، وعندما هاجمه الممثل الكوميدي الأميركي جيم كاري قبل خمس سنوات، ردّت إحداهن بعبارة: “أنت لقيط.” وإلى جانب قبره، يترك أنصاره رسائلهم لموسوليني وقد كتبوا عليها: “إيطاليا بحاجة لك”. وقال أحدهم: “عدّ يا موسوليني.”

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *