اجمعوا كؤوس الشمبانيا
سامي مروان مبيّض (دمشق، 18 تشرين الأول 2022)
في مثل هذه الأيّام من خريف عام 2004، دخلت قاعة الامتحان للدفاع عن أطروحة الدكتوراة في جامعة أكستر جنوب غرب إنكلترا. كان هناك مشرفان، أحدهما داخليّ من الجامعة نفسها، والثاني خارجيّ من جامعة أوكسفورد، وهو مؤرّخ معروف ومخضرم يُدعى ديريك هوبوود. نظر إليّ ببرودة أعصاب الإنكليز المعهودة، ووجّه إليّ سؤاله الأوّل: “هل أنت من أقرباء آل الأرمنازيّ؟” استغربت السؤال، فأجبته بالنفي، ولكنّه قال بإصرار: “ولكنّك تشبههم…هل لديك قرابة بأيّ شخص مرتبط بعائلة الأرمنازيّ؟”
من حسن حظّي أنّني كنت وما أزال على دراية كبيرة بمعظم مصاهرات الأسرة، فقلت له: “إنّ ابن عمّة جدّي هو من آل مردم بك.” ضحك وقال: “وآل الأرمنازيّ متصاهرون مع آل مردم بك، نظرتي كانت في مكانها.” لم يكن هذا الحديث لاستعراض معلوماته عن دمشق، بل لكسر الجليد وجعلي أكثر ارتياحاً له وللامتحان الذي كان ينتظرني.
وقفت طيلة ثلاث ساعات عرضت فيها الأطروحة أمامهم، كانت عن السنوات الأولى من عهد الاستقلال في سورية، من الجلاء لغاية الانقلاب الأوّل. في إحدى هوامش الأطروحة، كُنت قد ذكرت البحر الأسود في مكان غير صحيح عند تحدّثي عن مجريات الحرب العالميّة الثانية. أعطاني البروفيسور طبشوراً أبيضاً، وطلب إليّ الوقوف أمام السبّورة، وقال: “ارسم لنا لو سمحت خارطة العالم.”
حاولت فتح عبوة المياه التي كانت أمامي، ولكنّي لم أتمكّن من شدّة الارتباك والخجل، فعرض أن يفتحها لي، وقال: “اشرب أولاً لكي تتمكّن من الرسم.”
رسمت ما ألهمني الله إيّاه يومها، فقال: “جيّد…ارسم لنا الآن القارّات، ومن ثمّ البحار كافّة.”
ازداد ارتباكي من طلبه الغريب، وفعلت ذلك قدر الإمكان، وعندما وصلت إلى البحر الأسود، أشار بيده إلى الخطأ الذي كنت قد وقعت به وقال: “أنت طالب تاريخ، وهذه المادّة هي الجغرافيا، وعليك ألّا تخطئ بها أبداً.”
شكرته على الشرح، مع تخوّف من أنّه يمهّد الطريق للقول: “أنت راسب…اخرج من هنا، وعد إلى بلادك.”
وكانت الطامّة الكبرى عندما قلت: إنّ الرئيس شكري القوّتلي تراسل مع قادة العالم لأجل استقلال سورية، وذكرت زعيم الصين ماو زيدونغ في معرض حديثي. كنت أتكلّم على العام 1946، و”الرفيق ماو” لم يأتِ إلى الحكم إلّا سنة 1949، ضحك البروفيسور، وكادت خواصره أن تنفجر من شدّة الضحك، وهو يقول: “أكاد أجزم أنّ الرفيق ماو لم يكن يعرف مكان سورية سنة 1946.”
شعرت بإحباط شديد، وبدأت أحضّر نفسي للخبر السيّئ. طلب إليّ الخروج من القاعة لمناقشة الأمر مع بقيّة الأكاديميّين، وعندما عدت وجلست أمامهم، تغيّرت ملامح وجوههم وابتسموا قائلين: “مبارك…دكتور مبيّض.” كانت هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها كلمة “دكتور” في حياتي.
تحوّلت بعدها الأجواء من امتحان مضنٍ إلى احتفاليّة بامتياز. أقام رئيس القسم حفلاً صغيراً احتفالاً بالنجاح، وأذكر أنّ زجاجات من الشامبانيا قدّمت للحضور. رفع البروفيسور البريطانيّ كأسه عالية، وطرق الزجاج بقلمه، وكأنّه يريد سكوت الجميع لرفع نخب الطالب السوريّ، ولكنّه قال: “نسيت…طالبنا اليوم مسلم. احتراماً له أرجو منكم جميعاً جمع كؤوس الشامبانيا، وإحضار عصير البرتقال.”
أذكر هذه القصّة وكأنّها تحدث أمامي اليوم، في ذكراها الثامنة عشرة. أذكرها احتراماً للبروفيسور هوبوود الذي غادر عالمنا في آذار 2020، ولكي أقول لطلّاب الدراسات العليا اليوم: “لا تيأسوا من شدّة الامتحان وقسوة الممتحنين وغلاظة بعض المشرفين، فليس الهدف من ذلك إحباطكم بل جعلكم باحثين أفضل وأمتن.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!