إنزال النورماندي وغزو الاتحاد السوفياتي…دروس تاريخية في الحرب الأوكرانية

سامي مروان مبيّض (المجلة، 10 حزيران 2024)

يحمل شهر يونيو/حزيران في طياته ذكرى ثلاث مناسبات من زمن الحرب العالمية الثانية، تركت أثراً بليغاً في القارة الأوروبية. أولها: سقوط باريس في يد الجيش الألماني يوم 14 يونيو 1940، وفي 22 يونيو 1941 أطلق أدولف هتلر عمليته العسكرية الكبرى بغزو الاتحاد السوفياتي. ومما لا شك فيه أن احتلال فرنسا وسقوطها المدوي بيد الألمان ألهم هتلر في تحركه ضد بلاد السوفيات، ظناً منه أنها ستسقط بالسهولة نفسها، كما سقطت بولندا من قبلها عام 1939. حتى ذلك التاريخ، لم يكن شيء ليقف في وجه جيش هتلر الجرّار، إلا المياه المحيطة بجزيرة بريطانيا، التي جعلتها عصية على الاحتلال.

لم تشهد باريس أية مقاومة تذكر سنة 1940، تجنبا لدمار مؤكد على يد الألمان، وقالت القيادة الفرنسية إنه لا يوجد هدف استراتيجي في العالم يمكن أن يسوّغ التضحية بباريس. يوم دخل الجيش الألماني العاصمة الفرنسية لم يجد إلا القليل من عناصر الشرطة في الشوارع، وحده كاردينال المدينة ورئيس أساقفتها كانا موجودين في مكتبهما، مع عمدة باريس ورجال الإطفاء، وبعض موظفي الحكومة الخدميين.

في 28 يونيو، وصل الزعيم النازي إلى باريس المحتلة، في زيارته الأولى والأخيرة. استمرت قرابة ثلاث ساعات، قضى منها 50 دقيقة في أوبرا غارنييه الشهيرة، ثم توجّه إلى كنيسة لامادلين التي لم تُعجبه. انطلق بعدها إلى ميدان الكونكورد، وتوقّف قليلا في شارع الشانزليزيه، والتقطت صورة تذكارية في ساحة التروكاديرو وخلفه برج إيفل الشاهق. أصبحت هذه الصورة رمزاً للاحتلال النازي لفرنسا، الذي بدأت نهايته في 6 يونيو 1944، يوم إنزال قوات الحلفاء في النورماندي، المعروف أيضا بعملية “نبتون”. أُنزل يومها ما لا يقل عن 150 ألف جندي على الأراضي الفرنسية، وكانت النتيجة النهائية تحرير البلاد من النازيين، تمهيداً لتحرير ما بقي من أوروبا الغربية.

اجتمع قادة العالم في فرنسا الأسبوع الماضي للاحتفال بالذكرى الثمانين لإنزال النورماندي، يقودهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الوحيد بين الحاضرين الذي عاصر الإنزال طفلاً وهو في الثانية من عمره. أما بقية الزعماء فقد ولدوا جميعا بعده، بما فيهم ملك بريطانيا تشارلز الثالث. وقفوا لاستقبال الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي في النورماندي. وفي كلمته شبّه بايدن ما حدث في أوروبا قبل ثمانية عقود بما يحدث في أوكرانيا منذ بدء العمليات الروسية سنة 2022. ووعد بأن لا يسمح للروس بكسر عزيمة الأوكرانيين. وأضاف: “لن ينتهي الأمر عند هذا الحد، فجميع الدول المجاورة لأوكرانيا ستكون مهددة… كل أوروبا ستكون مهددة”.

 

رويترز رويترز

قادة الدول الحليفة التي شاركت في إنزال النورماندي أثناء إحياء الذكرى الثمانين للغزو في بلدة سان لوران سور مير في 6 يونيو.

دروس العالم من “عملية برباروسا”

الغائب الأبزر عن الاحتفال بذكرى إنزال النورماندي كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لولا بلاده لما انتصر الحلفاء على هتلر. كثير من المحللين والسياسيين يحاولون الربط بين الحرب الأوكرانية والحرب العالمية الثانية، علماً أن التشابه بينهما يتوقف عند تحرك الدبابات على الأرض الأوروبية والدمار الهائل الذي يخلفه. بداية، روسيا ليست الاتحاد السوفياتي المتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا قبل ثمانية عقود. كانت الدول تلك في خندق واحد ضد الألمان، وكان جوزيف ستالين صديقاً وحليفاً للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، وقد اجتمع معهما في طهران سنة 1943 وفي يالطا وبوتسدام عام 1945. في سنوات الحرب العالمية الثانية، كانت الصحف الأميركية والبريطانية متعاطفة مع الاتحاد السوفياتي، وتغض الطرف عن تجاوزات ستالين والطريقة التي حكم بها بلاده منذ عشرينات القرن، أي إن التجييش ضد الروس كان غائباً كلياً يومئذ. وقد اعتبرت الصحف الأميركية روسيا ضحية لا معتدية، وهاجمت الألمان الذين سعوا لاحتلال الاتحاد السوفياتي للوصول إلى النفط في القوقاز، والموارد الزراعية الخصبة في أوكرانيا. وقد جنّد هتلر لأجل هذه المعركة ما لا يقل عن ثلاثة ملايين ونصف المليون جندي ألماني، ما جعلها الأكبر في تاريخ المعارك البرية، ومن الأسوأ على الإطلاق من ناحية التخطيط العسكري واللوجستي.

كثير من المحللين والسياسيين يحاولون الربط بين الحرب الأوكرانية والحرب العالمية الثانية، علما أن التشابه بينهما يتوقف عند تحرك الدبابات على الأرض الأوروبية والدمار الهائل الذي يخلفه

 

 

اعتقل هتلر أكثر من ثلاثة ملايين مواطن روسي، مات معظمهم في السجون تعذيباً أو جوعاً. لكنه – وكما كان الحال سنة 2022 – لم يتوقع مدى قدرة الروس على الصمود والقتال. استخف بقدراتهم العسكرية، وبالغ في تقييم قدرات جيشه المنهك، متناسياً أن جوزيف ستالين على استعداد للتضحية بملايين الناس مقابل النصر التاريخي. لم تكن ألمانيا النازية جاهزة لحرب استنزاف، تماما كما هو الحال مع أوروبا الغربية اليوم، وقد خصصت للمعركة 148 فرقة عسكرية، أي ما يعادل 80 في المئة من جيشها، مع 3400 دبابة و2700 طائرة حربية. وفي المقابل، كان ستالين مجهزاً بخمسة ملايين عسكري و23 ألف دبابة، ولكنه وفي اليوم الأول من الغزو، تكبّد خسارة 1800 طائرة حربية، دُمّرت معظمها في المطارات على المهبط قبل أن تدخل أجواء المعركة. ومع حلول شهر سبتمبر/أيلول من عام 1941 سقطت كييف في يد الألمان، وكان عدد قتلى الجيش السوفياتي قد تجاوز 650 ألفاً. وقد تقدّم هتلر على شاطئ البحر الأسود وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول، أحكم سيطرته على مدينة خاركوف (خاركيف حالياً)، ثاني أكبر المدن الأوكرانية، وتمكنت قواته من محاصرة لنينغراد دون أن تدخلها، فأمر هتلر بتجويعها، وفرض حصارا خانقا عليها استمر 890 يوماً.

الشتاء الروسي 

في 2 أكتوبر 1941، بدأ الزحف نحو العاصمة الروسية موسكو. وظنّ هتلر مخطئاً أن قوات ستالين لن تتمكن من حمايتها، علما أن الأخير كان قد حصّن المدينة بشكل ممتاز، وسلّح سكانها تسليحاً كاملاً. ثم جاء العدو الأكبر الذي لم يكن في الحسبان، وهو شتاء روسيا القارس الذي قلب الموازين رأسا على عقب.

وإذا أردنا تشبيه المفاجأة بما يحدث اليوم، يمكننا القول إنها كانت بالنسبة للأوكرانيين أقرب إلى مفاجأة حرب غزة، فالشتاء الروسي أوقف الجيش الألماني على مشارف موسكو، والحرب الفلسطينية غيّرت من أولوية العالم كله، وجعلت الحرب الأوكرانية في مرتبة متدنية مقارنة بحرب غزة. لقد كان للغابات والمستنقعات والأنهر دور كبير في عرقلة التقدم الألماني في أشهر الصيف، قبل أن يتسلل الشتاء البارد الذي قدّر أحد ضباط هتلر أنه وصل إلى 45 درجة تحت الصفر. الجنود الألمان كانوا قد دخلوا المعركة بلباسهم الصيفي، ولم يتوقعوا أنها ستستمر إلى أشهر الشتاء، بينما كان الروس أعلم بجغرافيا بلادهم من النازيين ومستعدين ومتعايشين مع شتائهم، نفسياً وجسدياً وعسكرياً. تجمدت الزيوت في الدبابات الألمانية، وباتت المركبات العسكرية بحاجة إلى ساعات من الشحن للتمكن من العمل، فيما حوّلت الأمطار الطرق البرية في وجه الألمان إلى أنهار من الطين، ما شلّ حركة الدبابات ووسائل النقل التي كانت تجرها الأحصنة. وعندما جاء الثلج الروسي الغزير غطّى أرض المعركة كاملة، أجبر هتلر على التوقف واتخذ ستالين فرصة لتعزيز  قواته الدفاعية، التي سرعان ما تحولت إلى هجومية في وجه النازيين. وعندما عاود الألمان هجومهم على موسكو، لم يكن معهم إلا 135 ألف سيارة نقل من أصل 600 ألف سيارة، مع استمرار فقدان الملابس الشتوية للجنود.

رد الروس بهجوم مضاد يوم 5 ديسمبر/كانون الأول، وفي 7 يناير/كانون الثاني 1942 توقفت الحملة الألمانية بعد أن تكبّد هتلر 500 ألف قتيل في صفوف قواته، مقابل مليون جندي سقطوا قتلى من الجانب الروسي دفاعاً عن عاصمة الاتحاد السوفياتي.

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *