أين الجسر الجوي الأميركي؟
سامي مروان مبيّض (المجلة، 7 تشرين الأول 2023)
“اتصلت بـ (السفير الاسرائيلي سيمحا) دينيتز في واشنطن، وقلت له: أين هو الجسر الجوي؟ لماذا لم يبدأ بعد؟” بهذه الكلمات الغاضبة تصف رئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مائير مشاعرها من تأخر وصول المساعدات الأميركية في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، التي تُعرف عند الإسرائيليين بـ “حرب يوم الغفران”، أو “يوم كيبور”.
“أذكر أنني مرة اتصلت به في الساعة الثالثة صباحاً بتوقيت واشنطن، وقلت: لا يهمني كم هو الوقت الآن… اتصل بـ(وزير الخارجية الأميركي السابق هنري) كيسنجر حالياً في منتصف الليل وقل له إننا بحاجة لمساعدة اليوم، لأن غدا ربما يكون الوقت قد فات”.
مائير في الكنيست الإسرائيلي في اليوم الذي قدمت فيه استقالتها من رئاسة الحكومةالرئيس الأميركي في حينها ريتشارد نيكسون استجاب لمطلب مائير، قبل فوات الأوان بالنسبة إليها، وأرسل طائرات عملاقة محملة بالدبابات والذخيرة وصواريخ جو – جو، وقد وصلت مدينة اللد في اليوم التاسع من الحرب، وتمكن هذا الجسر الجوي من قلب موازين المعركة، وصولا إلى فرض وقف لإطلاق النار من قبل الأمم المتحدة. ولكن ذلك لم يلغِ الانتصار العربي الذي تمكن الجيشان المصري والسوري من تحقيقه في الأيام الأولى للحرب، وهي الأيام التي أطاحت بحكومة غولدا مائير بعد ستة أشهر.
الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون استجاب لمطلب مائير، قبل فوات الأوان بالنسبة إليها، وأرسل طائرات عملاقة محملة بالدبابات والذخيرة وصواريخ جو–جو، وقد وصلت مدينة اللد في اليوم التاسع من الحرب، وتمكن هذا الجسر الجوي من قلب موازين المعركة.
مائير تصف تلك الساعات المبكرة من الحرب بأنها “كارثة وشيكة”، لكنها تتابع وتقول: “لقد انتصرنا في حرب يوم الغفران، وأنا مقتنعة بأن القادة السياسيين والعسكريين في كل من سوريا ومصر يعرفون في قلوبهم أنهم هزموا، على الرغم من مكاسبهم الأولية”. لا يوافقها الرأي الرئيس الإسرائيلي في حينها إفرايم كاتسير، الذي كتب في مذكراته: “كان من الواضح بما لا يدعُ مجالا للشك أننا لم نفاجأ فقط بقدرة العدو على خداعنا، بل إننا لم نكن مستعدين لمثل هذا الحدث. لم نطور عضلاتنا وأصبحنا مدمنين دهون الأرض”. يشير كاتسير إلى مسؤولية غولدا مائير عن هزائم الأيام الأولى، ويرى أنها لا تتحمل وزر الهزيمة المبكرة “لأنها امرأة لا تعرف الفرق بين الكتيبة والسرية، اعتمدت على خبراء عسكريين أبعدوها عن طريق الصواب. مع كل تقديري واحترامي لها، ليس لدي أدنى شك أنه وفي زمن الحرب، يجب على رئيس وزراء إسرائيل، رجلاّ كان أو امرأة، أن يكون على دراية بأمور الدفاع”.
الرئيس الإسرائيلي السابق إفرايم كاتسير في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 في القدس
رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، الذي وصل إلى الحكم في أعقاب استقالة غولدا مائير، كان يومها رئيساً سابقاً للأركان، استدعي إلى قيادة الجيش في الساعة 8:30 من صباح 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973. “الدعوة إلى مثل هذا الاجتماع يوم السبت، يوم إجازتنا الوحيد في إسرائيل، كان أمراً غريباً بما فيه الكفاية، لكن ذلك السبت كان أيضاً يوم الغفران، وهو أقدس يوم في التقويم العبري، ما جعل مثل هذا الاستدعاء غريباً للغاية. لم يكن من الضروري أن يكون المرء رئيساً سابقاً للأركان ليدرك أن الجيش الإسرائيلي في حالة تأهب، ولكني ومع ذلك لم أتصور أن الحرب قادمة”.
“كان من الواضح بما لا يدعُ مجالا للشك أننا لم نفاجأ فقط بقدرة العدو على خداعنا، بل نحن لم نكن مستعدين لمثل هذا الحدث. لم نطور عضلاتنا وأصبحنا مدمنين دهون الأرض”.
الرئيس الإسرائيلي السابق إفرايم كاتسير
كثير من القادة العسكريين، مثل إسحاق رابين، لم يتصوروا ذلك أيضاً، على الرغم من التحذيرات التي وصلتهم من ملك الأردن الحسين بن طلال، وأشرف مروان صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان يومها يعمل في مكتب الرئيس أنور السادات. تحذيراتهما نُشرت مؤخراً في عدد من الوثائق السرية التي أفسحت عنها إسرائيل في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، ونشرت “المجلة” مقتطفات منها.
مذكرات موشي ديان
إضافة لغولدا مائير يتحمل وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان مسؤولية ما حل بجيش بلاده في الأيام الأولى من حرب أكتوبر، وهو الذي اتهم بالتقصير وعدم التحضير لمواجهة الهجوم المباغت من الجيشين السوري والمصري. ومثله مثل غولدا مائير أُجبر على الاستقالة من منصبه سنة 1974، وفي مذكراته المنشورة بعد سنتين الكثير والكثير عن تفاصيل تلك الحرب، وتقوم “المجلة” بنشرها في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر.
في الساعة الرابعة من صباح يوم السبت 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 استيقظت على رنين الهاتف الأحمر بجوار سريري. لم يكن هذا خارجاً عن المألوف، ولا تكاد أن تمر ليلة من دون مكالمتين أو ثلاث من هذا النوع، ولكن هذه المرة كان الاتصال لإبلاغي أنه وفقاً للمعلومات التي تلقيناها للتو، فإن مصر وسوريا ستشنان حرباً علينا قبل غروب الشمس.
موشيه ديان يراقب الخطوط الأمامية مع سوريا في مرتفعات الجولان خلال الحرب، يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول.
كثير من القادة العسكريين، مثل إسحاق رابين، لم يتصوروا ذلك أيضاً على الرغم من التحذيرات التي وصلتهم من ملك الأردن الحسين بن طلال، وأشرف مروان صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان يومها يعمل في مكتب الرئيس أنور السادات.
يشرح ديان موقفه بالقول: “أنا شخصياً لم أتخيل قط أن المصريين سوف يتصالحون مع وجودنا على طول قناة السويس، أو أن السوريين سيتقبلون احتلالنا لمرتفعات الجولان. شعرت أن وجودنا هناك سيعني الحرب، عاجلاً أم آجلاً”. ظن ديان مخطأ أن دباباته في الجولان – وعددها 177 – وتلك الموجودة في منطقة القناة (وعددها 300 دبابة) يمكنها صد أي عدوان مرتقب وكسب ما يلزم من الوقت إلى حين وصول تعزيزات عسكرية إلى الجبهات. “استندت الخطة إلى افتراض أنه سيكون هناك تحذير مسبق لأكثر من أربع وعشرين ساعة، فتكون التعزيزات الكبيرة من جنود الاحتياط قد وصلت إلى الجبهات مع بدء الحرب”. ويعترف أن هجوم “قوات العدو” كان “بكفاءة أكبر بكثير مما كان متوقعاً”، مقارنا بين أداء سوريا ومصر سنة 1973 وأدائهما في الحروب السابقة مع العرب منذ سنة 1948.
“كانت هذه رابع حرب أخوضها في حياتي. في الحرب الأولى، حرب الاستقلال عام 1948، كنت في الخامسة والعشرين من عمري وكنت أقود كتيبة كوماندوز. كان الأمر سهلا بالنسبة لي يومها، وعندما أنتهي من مسؤولياتي، كان بإمكاني لف كوفيتي حول وجهي والغرق في نوم عميق. حملة سيناء عام 1956 لم تكن صعبة ولا حرب الأيام الستة سنة 1967. تعرض يومها المصريون للضرب فهربوا، ولم يكن لدى السوريين صواريخ أرض–أرض، ولم يكن لدى الأردنيين أي قوة جوية.
يُضيف ديان أن الفارق الرئيس بين حربي 1967 و1973 كان في قوة الجيوش العربية التي يقدر أنها كانت أفضل مما كانت عليه في الماضي “بقرابة ثلاثة أضعاف”. وبحسب تعبيره، فإن عدد القوات العربية المشتركة سنة 1973 وصل إلى مليون جندي مقاتل، في حين أنهم جميعا سنة 1967 لم يتجاوزوا 300 ألف، وأن دباباتهم وصلت إلى 5 آلاف سنة 1973 عوضا عن 1700 سنة 1967، مع ألف طائرة حربية مقارنة بـ 350 في الماضي و4800 بندقية ميدان، مقابل 1350 سنة 1967.
إضافة إلى غولدا مائير يتحمل وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان مسؤولية ما حلّ بجيش بلاده في الأيام الأولى من حرب أكتوبر، وهو الذي اتهم بالتقصير وعدم التحضير لمواجهة الهجوم المباغت من الجيشين السوري والمصري.
وفي يوم الجمعة، 5 أكتوبر/تشرين الأول 1973، أمر موشي ديان برفع حالة التأهب إلى الدرجة “C”، وهي الأعلى في الجيش الإسرائيلي، قبل أن يجتمع برئيسة الوزراء غولدا مائير في الساعة 9:45 صباحاً. أخبرها صراحة بما كان يعتقد، أن سوريا ومصر ستشنان حربا “في غضون ساعات”، ولكن زملاءه العسكريين لم يوافقوه الرأي، وتحديدا رئيس الاستخبارات إيلي زيارا ورئيس الأركان ديفيد إليعازر. “في حكم رئيس الاستخبارات، كان من غير المحتمل أن يعبر المصريون القناة بقوات كبيرة، على الرغم من أنهم قد يفتحون النار ويحاولون شن بعض الغارات. وكان التقييم الأميركي أنه لا سوريا ولا مصر كانتا تنويان شن هجوم في المستقبل القريب”.
تبين سريعاً أن الأميركيين كانوا مخطئين…
كتب ديان في مذكراته أن الأيام الأولى من الحرب كانت “صعبة… خسائرنا من الرجال لم تكن خفيفة”. كان للجيشين السوري والمصري أفضلية الهجوم المفاجئ، ولكن الضباط الإسرائيليين أكدوا لغولدا مائير أن انتصارات سوريا ومصر الأولية يمكن عكسها بسرعة بمجرد وصول جنود الاحتياط إلى الخطوط الأمامية. تبين سريعاً أن الأمور لم تكن بهذه البساطة، كما يوضح ديان عند شرحه كيف اخترقت القوات السورية الخطوط الإسرائيلية جنوب مدينة القنيطرة، وتقدمت نحو الطرق المؤدية إلى بحيرة طبريا.
صورة من أرشيف الجيش الإسرائيلي تظهر أرييل شارون خلال جولة أثناء الحربتمكنت قواتنا من منع تقدم السوريين في اختراقهم، ودفعت بهم إلى ما وراء خطوط التماس، إلى قلب سوريا. ولكن حتى عندها، كان السوريون لا يزالون يخوضون معركة عنيدة من أجل المواقع الرئيسة، وعندما وصلت وحداتنا إلى المواقع المهيمنة على تل شمس على طريق القنيطرة– دمشق، وجدناها محمية بشدة، وتعرضت قواتنا إلى إطلاق نار من سلاح الجو السوري الذي دكها بالصواريخ.
كانت إسرائيل قد تلقّت معلومات مشابهة في الماضي القريب، يوم أمر الرئيس السادات بحشد قواته على الحدود وجعل الإسرائيليين يقومون بعملية مماثلة – بتكلفة مادية كبيرة جداً– ليعود وينسحب من دون حدوث أي مواجهة.
ثم ينتقل للحديث عن الجبهة المصرية، ويصفها بالقول: “كانت صعبة وبطولية ومحبطة”. تعرضت المعاقل الإسرائيلية الستة عشر على طريق قناة السويس، والتي كانت تُعرف بخط بارليف، إلى هجوم كبير وناجح للغاية من القوات المصرية. “كانت كل واحدة منها جزيرة منعزلة، تخوض صراعاً كبيراً ويائساً، صراع حياة أو موت. لا أعرف إذا كان من الممكن أن نحدد بدقة مدى صمود الحصون في وجه العدو، ولو ليوم واحد أو يومين”.
وأخيرا يعترف ديان بأن ما جعل حرب 1973 مختلفة عن سابقاتها هو أن العرب “لم يهربوا من مواقعهم”. ويقول: “في الماضي، كان الفرار سمة مشتركة للجيوش العربية… ليس كلهم، وليس على الفور. ولكن بقدر ما يمكن للمرء أن يعمم، يمكن القول إنهم عندما تعرضوا لضربات شديدة وكُسرت جبهتهم على نطاق واسع، كانوا يرفعون أيديهم وأعقابهم، ولكن ليس في هذه المرة”.
مذكرات شيمعون بيريس
في مذكراته، يقول شيمعون بيريس، رئيس الوزراء المستقبلي ورئيس إسرائيل في السنوات 2007-2014، إنه كان وزيراً صغيراً في حكومة غولدا مائير يومها، ولم تكن له مشاركة حقيقية في آلية صنع القرار.
رئيس الأركان الإسرائيلي ديفيد أليعازر (الثاني من اليمين) وإسحق رابين (أقصى اليسار) يهبطان بالقرب من الخطوط الأمامية في مرتفعات الجولان خلال الحرب، في 9 أكتوبر/ تشرين الأول.ولكنه وبعد أشهر قليلة أصبح وزيرا للدفاع، بعد استقالة موشي ديان من منصبه، بسبب نتائج حرب أكتوبر. اجتمع بيريس بديان صبيحة يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول، ويذكر كيف قال له الأخير إنه لا يستطيع دعوة الجيش إلى الجبهة فوراً، ولا حتى دعوة جنود الاحتياط في يوم واحد. “بعد كارثة حرب الغفران، تخلى عن موشي ديان من كانوا في الماضي القريب من أشد المعجبين به. بصقوا عليه أثناء زيارته إلى إحدى المقابر العسكرية وشتموه في الاجتماعات والصحف. لم يعد ديان الرجل نفسه بعد حرب يوم الغفران”.
ظنّ ديان مخطأ أن دباباته في الجولان – وعددها 177 – وتلك الموجودة في منطقة القناة (وعددها 300 دبابة) يمكنها صد أي عدوان مرتقب وكسب ما يلزم من الوقت إلى حين وصول تعزيزات عسكرية إلى الجبهات.
“لم أتخيل في صباح ذلك اليوم أنه وبعد بضعة أشهر فقط، سيقف ديان هناك، في المكتب نفسه، ويسلمني وزارة الدفاع. انغمست مباشرة في إعادة بناء الجيش وتعزيزه، وقمت بزيارات عشوائية وغير معلنة للمواقع العسكرية، للتأكد من أن هذا النوع من الإهمال الذي أدى إلى كلفتنا الفادحة عند اندلاع حرب يوم الغفران، لن يتكرر أبدا”.
ينظر بيريس إلى حرب عام 1973 ويتساءل: “حتى يومنا هذا، من الصعب أن نفهم ما حدث لنا في عام 1973. كيف يمكن لشعبنا أن يفشل في قراءة الكتابة على الجدران، التي كانت واضحة وجريئة للغاية؟”، ويشير إلى أن الحرب أعطت أنور السادات ما يكفي من انتصار ليشعر بأنه قادر على التفاوض مع إسرائيل، ولكنها وفي المقابل ألحقت به ما يكفي من هزيمة ليدرك أن مصر لا تستطيع فرض إرادتها على إسرائيل بطرق عسكرية. “مصر فشلت في تحقيق نصر عسكري، وإسرائيل لم تحقق نصرا سياسيا”.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!