فلتبدأ الألعاب الأولمبية بعيداً عن السياسة
سامي مروان مبيّض (المجلة، 26 تموز 2024)
بدأت دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في العاصمة الفرنسية باريس، وتستمر لغاية 11 أغسطس/آب. وستكون المرة الثالثة في التاريخ التي تستضيف فيها باريس الألعاب الدولية بعد دورتي 1900 و 1924. ومما لا شك فيه أنها ستبعد الأنظار قليلاً عن الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يواجه تحديات سياسية كبرى منذ مطلع هذا الصيف.
لكن السياسة ستبقى مخيمة على الألعاب، في ظلّ حظر مشاركة روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، وبيلاروسيا لدعمها هذه الحرب، مع منع الرياضيين المؤيدين للرئيس فلاديمير بوتين من المشاركة أيضاً، وفي مقدمتهم المصارع الروسي عبد الرشيد سادولاييف، الذي استبعد منذ شهر فبراير/شباط الماضي. يتهم البعض اللجنة الأولمبية الدولية بالكيل بمكيالين، لمنعها روسيا بسبب أوكرانيا، وسماحها لإسرائيل بالمشاركة على الرغم من الحرب المستمرة في قطاع غزة منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
قبل أشهر من افتتاح الألعاب الأولمبية في موسكو يوم 19 يوليو/تموز 1980، ولدت المجلة وصدر عددها الأول في 16 فبراير/شباط 1980. كتب يومها الكاتب اللبناني إياد أبو شقرا في المجلة عن تداخلات السياسة في الألعاب الأولمبية، بعد مقاطعة 60 دولة لتلك الدورة، احتجاجاً على الغزو السوفياتي لأفغانستان في العام السابق. ومع أن الأولمبياد عادت في دورة الألعاب الشتوية إلى مدينة سوتشي سنة 2014، فإنها لم تعقد ثانية في العاصمة الروسية، وبمناسبة العدد الأول من المجلة، وتزامناً مع ألعاب باريس هذا الشهر، نعود في تقرير جديد عن تداخلات السياسة في الألعاب، وكيف وقفت في وجه روابط الصداقة والرياضة.
أنتويرب 1920
كانت هذه الدورة هي الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918، عُقدت في بلجيكا، وخيّمت عليها السياسة بشكل كبير بعد منع كل الدول المهزومة في الحرب من المشاركة: النمسا، وبلغاريا، والمجر، وألمانيا، والدولة العثمانية. الاتحاد السوفياتي كان حديث العهد في حينها، ودعي للمشاركة، ولكنه اعتذر.
برلين 1936
من أشهر دورات الألعاب الأولمبية، عُقدت في العاصمة الألمانية بعد سنتين على فوز أدولف هتلر بالانتخابات النيابية، واستعملت من قبله للترويج لنظام حكمه النازي. أصر هتلر على تصوير الألعاب للتاريخ، وبثها عبر أثير برلين إلى 41 دولة. هددت بعض الدول بالمقاطعة بسبب سياسات هتلر العنصرية، ولكنها لم تفعل، ومنها الولايات المتحدة. أراد هتلر لألعاب برلين أن تكون أعظم وأكثر إبهاراً من ألعاب لوس أنجليس سنة 1932، وقد سمح لعدد محدود من الرياضيين اليهود بالمشاركة، ومنهم مبارزة السيف الألمانية هيلينا ماير. وفي هذه الألعاب، شاهد الحكم اللبناني ورئيس فريق كرة القدم بيار جميل قدرة الحزب النازي الرهيبة على التنظيم والانضباط، وعاد إلى بلاده ليؤسس حزب الكتائب اللبنانية الذي لعب دوراً محورياً في الحرب الأهلية اللبنانية وما يزال قائما حتى اليوم.
لندن 1948
كانت هذه الألعاب هي الأولى بعد انتهاء معارك الحرب العالمية الثانية واستسلام دول المحور، وكانت الأولى التي تُبث عالمياً عبر شاشات التلفاز. حضر الافتتاح الملك جورج السادس، وغابت عنه الدولة السوفياتية، ومنعت اليابان ومعها ألمانيا المهزومة من المشاركة. تقدمت إسرائيل للمشاركة، ولكن طلبها رفض من قبل اللجنة الأولمبية الدولية التي لم تكن قد اعترفت بها بعد (أسست إسرائيل في شهر مايو 1948 وافتتحت الألعاب في شهر يوليو من العام نفسه). كانت بريطانيا ما تزال في مرحلة التعافي من الحرب، وتشهد سياسات صارمة في شد الأحزمة وضبط الإنفاق، ولذلك، لم تشيّد أية منشأة رياضية خاصة بالألعاب الأولمبية، وأقامت معظمها في ملعب ويمبلي الشهير، الذي كان عمره في حينها 25 سنة. أشهر ما حدث في هذه الدورة الأولمبية كان انشقاق ماري بروفازنيكوفا، رئيسة اتحاد الجمباز التشيكوسلوفاكي، وإعلانها عدم العودة إلى بلادها التي كانت قد التحقت بالمعسكر السوفياتي في شهر فبراير من العام نفسه.
1952 هلسينكي
شهدت هذه الدورة في فنلندا أول مشاركة رسمية من الاتحاد السوفياتي مع بداية الحرب الباردة، وشاركت للمرة الأولى أيضاً كل من إسرائيل والصين وتايلاند. الصحافة الأميركية والأوروبية صورت ألعاب هلسينكي على أنها “معركة” بين دول العالم الحر والدول التابعة للمعسكر الشيوعي، ومع ذلك تمكن الاتحاد السوفياتي من حصد 71 ميدالية، ما جعله في المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة.
شهدت الدورة في فنلندا أول مشاركة رسمية من الاتحاد السوفياتي مع بداية الحرب الباردة، وشاركت للمرة الأولى أيضاً كل من إسرائيل والصين وتايلاند
1956 ميلبورن
قاطعت جمهورية الصين الشعبية هذه الدورة في أستراليا، احتجاجاً على دعوة تايوان للمشاركة، وقاطعت مصر ومعها العراق ولبنان اعتراضاً على العدوان الثلاثي الذي شنته فرنسا وبريطانيا وإسرائيل إبان تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس في شهر يوليو من العام نفسه. وقد شملت المقاطعة أيضاً كلاً من النرويج وإسبانيا وسويسرا، في وقفة مشتركة مع المجر إبان الغزو السوفياتي قبل افتتاح الألعاب الأولمبية بأسابيع معدودة. ومن اللحظات التاريخية في هذه الدورة كانت مباراة البولو بين الاتحاد السوفياتي والمجر، الدولتين المتصارعتين في السياسة، وقد تخللتها مشاجرة وضرب لاعب مجري. ألغيت المباراة، وأعلن فوز المجر فيها لكونها متقدمة على الاتحاد السوفياتي لحظة اندلاع العنف وتوقف المباراة.
1964 طوكيو
استثمرت اليابان كثيراً في هذه الألعاب كما استثمرت ألمانيا في دورة عام 1936، وأرادت حكومة طوكيو أن تظهر مدى التقدم الذي حققته منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأن تقول للعالم إنها باتت دولة مسالمة، غير عدوانية، وصديقة للغرب. خصص مبلغ 4 مليارات دولار لتجميل العاصمة اليابانية وتأهيلها، ولكن السياسة دخلت على الخط مجدداً عندما منعت اللجنة الأولمبية دولة جنوب أفريقيا من المشاركة لرفضها إرسال فريق متعدد الأعراق، ما أدى إلى حرمانها من المشاركة مدة ثلاثين سنة.
1968 المكسيك
كانت هذه أول دورة أولمبية تعقد في أميركا اللاتينية، وقد خيّمت عليها ظلال المظاهرات العارمة التي اجتاحت المدن المكسيكية قبل أيام من الافتتاح. تجمهر الطلاب في ساحة بلازا تري كلتوراس في محلّة تلاتيلكو وسط العاصمة، وردت القوات المكسيكية بإطلاق النار وقتل مئات المتظاهرين من الطلبة العُزّل. كان مطلبهم تحويل الأموال المخصصة للألعاب الأولمبية لصالح المشاريع الاجتماعية والأهلية للفقراء والمحتاجين، وقد هددت الكثير من الدول بالمقاطعة تضامناً مع الطلاب واحتجاجاً على مقتلهم، ولكنها لم تفعل. ومن أشهر ما حدث في هذه الدورة من الناحية السياسية كان إرسال دعوة مشروطة إلى جنوب أفريقيا، على أن تلتزم بإرسال فريق متعدد الأعراق، ولكن الدعوة سُحبت من قبل اللجنة الأولمبية إبان تهديد عدد من الدول الأفريقية بالمقاطعة، في حال مشاركة جنوب أفريقيا.
1972 ميونيخ
لعلها الأشهر في عالمنا العربي، والأكثر دموية في تاريخ الألعاب الأولمبية، بعد اقتحام مسلحين فلسطينيين من منظمة أيلول الأسود للقرية الأولمبية في مدينة ميونيخ لخطف تسعة لاعبين إسرائيليين، ومقتل اثنين منهم. تمكن الخاطفون من الوصول إلى مطار قريب من مقر الألعاب، وعند فشل الحملة الألمانية لإطلاق سراح الرهائن، قتلوا جميعاً ومعهم ضابط ألماني. خيمت هذه الأحداث عل كل المنجزات الرياضية في دورة ميونيخ سنة 1972، وكتب عنها الكثير كما جسّدت أحداثها مراراً في السينما والتلفاز. وقبل أيام من انطلاق دورة باريس هذه السنة، عادت ألعاب ميونيخ إلى الأذهان بعد اختيار شركة أديداس العالمية العارضة الفلسطينية الأميركية بيللا حديد لعرض حذاء أديداس قديم “ريترو” كان قد أطلق للمرة الأولى في أثناء ألعاب ميونيخ سنة 1972. احتجت إسرائيل على الإعلان، وتمكنت من إيقافه، بسبب مواقف العارضة الفلسطينية الأصل المؤيدة لقضية بلادها، ومعارضتها المعلنة لحرب غزة.
1976 مونتريال
قاطعت 23 دولة أفريقية هذه الدورة في اللحظة الأخيرة، احتجاجاً على دعوة نيوزيلندا التي كانت قد شاركت في وقت مبكر من عام 1976 في مباراة الرغبي في دولة جنوب أفريقيا، المنبوذة في القارة السمراء بسبب نظامها العنصري ضد الزنوج. و انسحبت تايوان من دورة عام 1976 بسبب رفض اللجنة الأولمبية السماح لها بالمشاركة باسم “جمهورية الصين.”
1980 موسكو
جاءت هذه الدورة بعد أشهر من الاجتياح السوفياتي لأفغانستان، وقد سُيّست فوراً من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وأصدر الرئيس جيمي كارتر إنذاراً شديد اللهجة في 29 يناير/كانون الثاني 1980، مهدداً بمقاطعة شاملة للألعاب، وعندما فعل، انخفض عدد الدول المشاركة من 120 إلى 81 دولة فقط، علماً أن بعض أشهر حلفاء أميركا التقليديين رفضوا المقاطعة، ومنهم بريطانيا وفرنسا وفنلندا وإيطاليا وإسبانيا.
1984 لوس أنجليس
سيست هذه الألعاب مثل سابقاتها، ورداً على المقاطعة الأميركية لألعاب موسكو، قاطع الاتحاد السوفياتي الدورة المنعقدة في مدينة لوس أنجليس، مسقط رأس الرئيس الأميركي رونالد ريغان. افتتح ريغان الألعاب بنفسه، بغياب 14 دولة من أوروبا الشرقية ومعها كوبا. وحدها رومانيا من المعسكر الشرقي شاركت في ألعاب لوس أنجليس، وقد شهدت دورة عام 1984 عودة لافتة للصين، بعد غياب طويل منذ سنة 1952.
1992 برشلونة
كانت هذه الدورة هي الأولى بعد انتهاء الحرب الباردة، وقد شاركت فيها جنوب أفريقيا بعد غياب طويل إثر نبذها لنظام الفصل العنصري (الأبارتهايد). وشاركت ألمانيا بفريق واحد وعلم واحد، بعد توحيدها وسقوط جدار برلين، ومن الدول المشاركة للمرة الأولى أيضاً كانت الجمهوريات السوفياتية السابقة، مثل أستونيا ولاتفيا وليتوانيا.
2016 ريو دي جنيرو
جاءت هذه الدورة في أوج أزمة اللاجئين العالمية، وفي أعقاب الحروب الدائرة في سورية وليبيا واليمن، ما أدى إلى ولادة فريق خاص باللاجئين، مؤلف من رياضيين سوريين وإثيوبيين ومن جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية. شاركوا في حمل الشعلة الأولمبية، وأرادت اللجنة الدولية المنظمة لفت انتباه العالم إلى أوضاعهم ومعاناتهم في دول اللجوء.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!