دعوا العملاق يحلم
سامي مروان مبيّض (دمشق، 18 تشرين الأول 2018)
تخيلوا لو انحنى زعيم عربي أمام نعش أحد الفنانين العرب، كما فعل رئيس وزراء أرمينيا في جنازة الفنان شارل أزنافور بباريس قبل أيام؟ تخيلوا أنهم فتحوا أبواب الأنفاليد في فرنسا خلال جنازة هذا المهاجر الأرمني، جنباً إلى جنب مع نابوليون بونابارت، في سابقة من نوعها واعتراف أن الفن نجح في نشر الثقافة الفرنسية حول العالم، أكثر من المدافع والغزوات.
قبل يوم من هذا المشهد الرهيب، ظهر “أزنافور العرب،” المطرب الكبير صباح فخري، في زيارة لمعهد صلحي الوادي للموسيقا في دمشق. كان رجلاً هرماً قارب العقد التاسع من العمر، يمشي بصعوبة ويتحدث بصعوبة، ولكنه مُصراً على الحياة، ومُصر أيضاً على متابعة أعمال الأجيال الصاعدة من الفنانين الشباب. لم يشفع له سنه المتقدم، ولا تاريخه الطويل مع الفن الأصيل، في حمايته من سخرية بعض رواد الفيسبوك من السوريين، الذين تسائلوا: “ألم يمت هذا العجوز؟” تذكرت كل النكات التي أطلقت على الشحرورة صباح قبل رحيلها، عندما تساءل البعض بسخرية: “متى ترحل الصبوحة؟” كان جرمها الوحيد أنها رفضت التقاعد، لا من الفن ولا من الحياة، على الرغم من تقدمها بالسن.
صباح فخري حالة فنية نادرة، لم يدخل في دوامة الحرب الطاحنة في بلاده، بل حفظ لسانه وابتعد كلياً عن السياسة. هذا الفنان الكبير دخل القصر الجمهوري فتىً يافعاً وفقيراً في أربعينيات القرن الماضي، يحمل بيده سجادة صلاة، وكانت الدعوة يومها بطلب من زعيم دمشق وراعي الفنون فخري البارودي، الذي تبناه فنياً وأعطاه اسمه “فخري” بدلاً من اسمه الحقيقي “صباح الدين أبو قوس.”
أطرب الرئيس شكري القوتلي يومها، وتكرر ظهوره في عرس احدى بناته، ثم عندما أذن أمام الرئيس القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر في حلب، خلال زيارة الزعيمين إلى جامع جمال عبد الناصر في حيّ الكلّاسة. لم يترك عاصمة عربية إلا ومر بها منذ ذلك التاريخ، تاركاً بصمات ما زالت واضحة في مخيلة كل من حضر حفلاته.
البعض يقول إن صباح فخري أساء لنفسه قبل أن يسيء له الأخرون، عندما ظهر بشكل غير لائق على بعض الفضائيات العربية منذ سنوات، وهو متعثر اللسان والقدرات الجسدية والصوتية، بدلاً من المحافظة على صورته الناصعة في أذهان الملايين من عشاقه. قد يكون كلامهم صحيحاً، ولكني أعرف جيداً أن تلك الإطلالات كانت بنصيحة من أطبائه الألمان، بعد تعرضه لجلطة دماغية، حيث قالوا لأسرته إنه لن يتعافى جسدياً قبل أن يشفى نفسياً.
“يجب أن يعود إلى العمل، وإلى جمهوره، وإلى الناس… لكي يشعر انه ما زال حياً.” قد يكون الأطباء الألمان أساؤوا التقدير “فنياً” ولكنهم حافظوا على حياة الرجل، معتقدين أن ظهور غير لائق هنا وهناك لا يمكن أن يمحي ستة عقود من التألق والإبداع.
ولكن يبدوا أنهم لم يكونوا على دراية حقيقية بمعدن الشعب العربي، وأنه قصير الذاكرة أولاً وقليل الوفاء. الاستثناء الوحيد هم أهالي حلب، الذين تربطهم علاقة حب لا تنتهي مع “أبو محمد،” وشعب مصر، الذي لم يسئ لأم كلثوم يوماً، لا في حياتها ولا بعد مماتها، وقد يتحول إلى شعب مفترس وعنيف لو تطاول أحداً عليها. الحالة نفسها تتكرر مع “الزعيم” عادل إمام، الذي قد لا يحبه البعض ويغار منه كثيرون، ولكن من المستحيل أن يتعرض إليه أحد من المصريين، باعتباره هرم، مثل خوفو، أو قامة، مثل أبو الهول.
ذات يوم، سألوا محمد عبد الوهاب عن “القراصية،” التي طالما غنى عنها صباح فخري، وعند زيارته دمشق، طلب أن يستمع إليه شخصياً بعد أن قدّم له القراصية. ثم بدأ بالغناء، فوقف عبد الوهاب حينها وطلب من الحاضرين الوقوف قائلاً: “احتراماً لهذا الصوت الرخيم، عليكم جميعاً أن تقفوا معي!” كانت أم كلثوم تطلب من أصدقائها كلما زاروا سورية: “والنبي، عاوزة كاسيت لصباح فخري.”
المتعارف عليه عربياً هو أن العمالقة هم أم كلثوم وَعَبَد الوهاب وفريد وَعَبَد الحليم. يجب أن يُضاف لهم اسم “صباح فخري.”
البعض اليوم يقارن بين تكرار ظهور صباح فخري واعتكاف سميرة توفيق الكلي عن الإعلام، والتقاعد الغير معلن للسيدة فيروز، مشيراً إلى أنه كان من المفترض أن يسلك هذا الطريق، الأنفع له. في نهاية المطاف، هذا قراره ويجب علينا أن نحترمه، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا. تعود علاقتي بصباح فخري إلى زمن بعيد، فهو صديق قديم لأسرتي، وقد التقيت به منذ أيام قليلة في دمشق وسألته عن صحته، فكان الجواب: أنا ممتاز، وقريباً سوف أغني في قلعة حلب!”
دعوا هذا الرجل الكبير يحلم…واحترموا حبّه للحياة، وإصراره على البقاء. الاستسلام للموت قرار، والتقاعد عن الفن قرار، وهو رجل لا ينوي التقاعد أو الاستسلام أبداً.
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!