تشرشل رأى في بريطانيا قوة محمدية

سامي مروان مبيّض (المجلة، 29 كانون الثاني 2024)

في القرن التاسع عشر، كانت المراسلات الدولية تصف منطقتنا العربية بالشرق، أو المشرق، قبل أن تأتي فرنسا بمصطلح “الشرق الأدنى” للتعبير عن الرقعة الجغرافية الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية. أما عبارة “الشرق الأوسط” المتعارف عليها اليوم فهي لم تولد إلا سنة 1902، وجاءت على لسان المؤرخ الأميركي ألفريد ثيار ماهان، لتقوم صحيفة التايمز البريطانية بالترويج لها إعلامياً. ثم جاء ونستون تشرشل، يوم كان وزيراً للمستعمرات، وجعلها رسمية في القاموس السياسي الدولي يوم أسس قسماً خاصاً بالمنطقة العربية باسم “قسم الشرق الأوسط.” الجميع يعرف دوره التاريخي بوصفه رئيس حكومة بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، يوم قاد بلاده في حربها ضد ألمانيا بين مايو/أيار 1940، ويوليو/تموز 1945، وحقق لها نصرها المشهود، رافعاً إشارة النصر (V). عاد إلى الحكم ثانية في أكتوبر/تشرين الأول 1951 وبقي فيه حتى شهر أبريل/نيسان 1955، وهي المدة التي نال فيها جائزة نوبل للآداب.

 

AP

تشرشل مع الملك عبد العزيز آل سعود في مصر في فبراير 1945

حافظ تشرشل على مقعده النيابي لغاية عام 1964 وتوفي في 24 كانون الثاني (يناير) 1965. يختلف العرب في تقييمهم للرجل، بين من لا يغفر له دعمه المطلق للمشروع الصهيوني، ومن يعده رجل دولة من الطراز الرفيع، كانت له اليد العليا في تأسيس دولتي العراق والأردن، إضافة إلى دوره الكبير في تحرير سورية من الاحتلال الفرنسي.

التواصل الأول مع العرب والمسلمين

وُلِد ونستون تشرشل في قصر أسرته بمقاطعة أكسفورد شير، جنوب شرقي إنكلترا سنة 1874، وترعرع في كنف الإمبراطورية البريطانية. كل مراحل تعليمه كانت استعمارية بامتياز، وأول احتكاك له بالعالم الإسلامي جاء في أكتوبر/تشرين الأول 1896، يوم كان ضابطاً شاباً في الجيش البريطاني، لم يتجاوز عمره اثنتين وعشرين سنة، دخل إلى الخدمة على حدود الهند الشرقية، التي أصبحت تسمى اليوم أفغانستان وباكستان. أُعجِب جدا بمدينة حيدر آباد، ولكنه كتب إلى أمه في إنكلترا بأنه لم يدخلها إلا راكباً على متن فيل لكيلا يتعرض للبصق والشتم من قبل الأهالي. أدرك تشرشل باكراً أن بريطانيا العظمى كانت مكروهة في مستعمراتها، ولكنه كان وفيا لعرشها، ويعدها حجر أساس لأي تطور ممكن في العالم ومهمتها الرئيسة “تحضير الناس وتوجيههم نحو الرقي الاجتماعي والثقافي.” ولكن مفهومه للحضارة كان مشوهاً، يراه محصورا في تقدم مدينة لندن وحدها دون غيرها من المدن، وليس في ثقافة شعوب العالم القديم ومدنه وتاريخها. وعندما أذنت له القيادة العسكرية بالعودة إلى لندن كتب لأمه فرحاً، وقال: “أتطلع بشدة لرؤية الحضارة مجدداً، بعد البؤس الهمجي في هذه البلاد.”

أدرك تشرشل باكرا أن بريطانيا العظمى كانت مكروهة في مستعمراتها، ولكنه كان وفيا لعرشها

 

 

بعدها بسنتين، عُين تشرشل في السودان، تزامنا مع مرحلة تحول في حياته شهدت ابتعاده عن الأديان كافة. وهذا ما يُفسر امتعاضه الشديد من المجتمع السوداني المحافظ الذي كتب عنه في كتابه حرب النهر سنة 1899:

ما أفظع لعنات المحمدية بأتباعها. قد يظهر المسلمون صفات رائعة كأفراد، فهم شجعان ومخلصون للملكة، وكلهم يعرفون كيف يموتون (في إشارة إلى الشهادة). لكن تأثير الدين في هذه البلاد يشل التنمية الاجتماعية لأتباعه.

بالنسبة لكثيرين، تعد هذه الجملة دليلاً دامغاً على عنصرية ونستون تشرشل ومعاداته للإسلام، علماً أنه ندم عليها، وقرر التخلي عنها، وإسقاطها من الطبعة الثانية من الكتاب التي صدرت سنة 1901.

“لا تُصبح مسلما”

مما لا شك فيه أن التحول الكبير في فكر تشرشل والتقبل للدين الإسلامي كان نتيجة صداقته المتينة بالشاعر والكاتب البريطاني ويلفريد بلانت الذي جال في مدن الشرق الأوسط، وعرف ثقافتها وتاريخها عن قرب. كان بلانت محباً للعرب، وقضى ساعات طويلة مع تشرشل يصقل فيها شخصيته، ويحدثه عن مزايا الإسلام والمسلمين، الذين بلغ عددهم سنة 1910 عشرين مليوناً في الدولة العثمانية، و62 مليوناً في الهند، وعشرة ملايين في مصر. ولأن الهند ومصر كانتا تتبعان العرش البريطاني آنذاك، بات تشرشل ينظر إليهما وإلى إمبراطورية بلاده الواسعة على أنها “أقوى دولة محمدية في العالم،” بحسب تعبيره.

وتحول المسلمون في نظره من أعداء إلى نقطة قوة وجذب، وفي يومياته يكتب بلانت كيف أقنع تشرشل ذات يوم بارتداء الزي العربي، مع الكوفية والعباءة. وكتب الأخير عن تجربته للزي العربي مخاطباً صديقته الليدي كونستانس لايتون، وهي من ناشطات حقوق المرأة في بريطانيا: “قد تظنينني باشا، ويا ليتني كُنت.” إعجابه المفاجئ بالإسلام أقلق صديقته الأخرى الليدي غويندولين بيتي، التي كتبت له تتوسل أن لا يعتنق الإسلام: “أرجوك، لا تصبح مسلماً… لقد لاحظت في تصرفاتك ميلاً نحو الاستشراق.”

 

United States Library of Congress

تشرشل وعقيلته أثناء حفل استقبال في القدس في 28 مارس 1921

في سنة 1902 التقى تشرشل بزعيم الطائفة الإسماعيلية الآغا خان الثالث، وأدهشه بحفظ أقسام كاملة من الترجمة الإنكليزية لرباعيات الخيام. وعند تعيينه وكيلاً لوزارة الدولة لشؤون المستعمرات البريطانية، سافر إلى المنطقة، وأقام أربعة أيام في إسطنبول اجتمع فيها بالسلطان محمد رشاد الخامس. لم يعجبه السلطان العثماني وعده مملاً، ولكنه أثنى على الضابط الشاب أنور باشا، أحد قادة جمعية الاتحاد والترقي الذي أصبح وزيرا للحربية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. شبهه بنابليون، وكتب: “أُعجبت بهذا الضابط الوسيم الشاب. ولو أن الخطوط العريضة للسياسة البريطانية كانت أكثر توافقاً مع المطالب التركية المشروعة، لَكُنْتُ على يقين من أننا سنعمل بانسجام معه.”

في يومياته يكتب ويلفريد بلانت كيف أقنع تشرشل ذات يوم بارتداء الزي العربي، مع الكوفية والعباءة

 

 

ومع تسميته وزيراً للبحرية سنة 1911، سعى تشرشل لإقامة تحالف مع الدولة العثمانية بصفتها – مع إمبراطوريته – من “الدول المحمدية الأقوى في العالم.” ولكنه لم يكن وحيداً في مساعيه، وكان ينافسه على كسب ود العثمانيين إمبراطور ألمانيا وقيصرها الطموح غليوم الثاني. كتب تشرشل إلى وزارة الخارجية البريطانية ناصحاً: “الأتراك لديهم الكثير، ونحن الوحيدون القادرون على دعمهم.”

 

Getty Images

تشرشل مع الجنرال الفرنسي شارل ديغول

وتجسيدا لهذا الدعم، وافق الوزير تشرشل على بيع سفينتين حربيتين (الرشادية والسلطان عثمان) إلى الحكومة العثمانية بأسعار مغرية جداً، ولكنه سرعان ما تراجع ووضعها تحت تصرف البحرية البريطانية، مع قرب اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914. وعندما وقعت الحرب، أعلنت الدولة العثمانية وقوفها مع ألمانيا القيصرية، ودعا السلطان السلطان رشاد إلى جهاد مقدس ضد الإنكليز. رسمياً وعد تشرشل بكسر تلك الدولة “غير الفعالة وغير القادرة على الالتحاق بركب التطور،” ولكنه ظل حتى سنة 1915 يسعى سرا إلى إقامة تعاون مع أنور باشا. وبعد فشل الحملة العسكرية البريطانية في معركة غاليبولي أُجبِر تشرشل على ترك منصبه ليعود وزيراً للذخائر عام 1917 وبعدها بسنتين، وزيراً للحربية في يناير/كانون الثاني 1919. ولكن الحرب العالمية الأولى كانت قد وضعت أوزارها، وبدأت الدولة العثمانية بالتفكك بعد هزيمتها، تمهيداً لانهيارها الكلي. كان تشرشل يريد بقاء الدولة العثمانية، ولكن تحت مراقبة دولية صارمة، شرط أن تكون ضعيفة ومنزوعة المخالب والسلاح.

بين الحربين

في وزارة الحربية، أراد تشرشل تخفيض عدد الجنود البريطانيين المنتشرين في العالم، وقال إن تكلفة بقائهم باتت عالية جداً. وقد وجب التخفيض لأن الحرب العظمى قد انتهت أولاً، ولأنه تخوف من محاولات السوفيات التغلغل في معسكرات الإنكليز، مستغلين رغبة الجنود بالعودة إلى بلادهم وإنهاء خدمتهم العسكرية. أما عن الشرق الأوسط فقد وضِعت حوله تصورات عدة، بعضها غريب وفاقد لأي اتصال بالواقع، كمقترح وزير المستعمرات لويس هاركوت، الذي طالب بوضع الأماكن المقدسة تحت سيطرة الأميركيين، ومقترح آخر للمعتمد البريطاني الأسبق في مصر هربرت كتشنر بوضع مكة والمدينة تحت حكم بريطاني مباشر. عارضهم تشرشل، ودعا إلى تخفيف الوجود العسكري في المستعمرات، مع تقويتها مالياً واقتصادياً لكي تتمكن من الاعتماد على نفسها، ولا تتحمل أعباءها الخزينة البريطانية، ولكنه أراد التعامل مع وكلاء محليين تكون تبعيتهم له بشكل مباشر، ويكون ولاؤهم المطلق للإمبراطورية البريطانية.

وزارة المستعمرات ومؤتمر القاهرة

في 1 يناير/كانون الثاني 1921 عُين تشرشل وزيراً للمستعمرات في حكومة الرئيس لويد جورج، الذي وبحسب تعبير المؤرخ الأميركي وارن دوكتور، أراد الاستفادة من “نشاطه وفكره الخلاق” في إدارة منطقة الشرق الأوسط. أسس تشرشل قسم الشرق الأوسط في وزارة المستعمرات، وتعاون مع الكولونيل توماس إدوارد لورانس (لورانس العرب)، الذي كان قد شارك في ثورة العرب ضد الدولة العثمانية، وقادهم إلى النصر سنة 1918. التقى به تشرشل للمرة الأولى في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، ووُلدت بينهما صداقة متينة مع احترام متبادل وعميق. وكان للورانس، مثل ويلفريد بلانت من قبله، دور مهم للغاية في حث تشرشل على الاستماع إلى مطالب العرب ومساعدتهم على نيل حقوقهم المشروعة. في مكتبه الجديد، وضع تشرشل جدولا بالأسماء العربية وطريقة موحدة لترجمتها إلى اللغة الإنكليزية، مع خريطة كبيرة للعالم العربي تُظهر مكان انتشار القبائل، وتوضح أصحاب النفوذ في كل بلد، وكل منطقة جغرافية. وطلب إلى معاونيه شرحاً مفصلاً عن الفرق بين المسلمين السنة والشيعة، ليتمكن من فهم الدين الإسلامي أكثر.

 

عقد تشرشل في 12-30 مارس/آذار 1921، مؤتمرا في القاهرة حضره نخبة من الخبراء والمستشرقين والعاملين في وزارته، نتج عنه تأسيس كل من إمارة شرق الأردن والمملكة العراقية الهاشمية

 

 

وفي 12-30 مارس/آذار 1921، عقد تشرشل مؤتمراً في القاهرة حضره نخبة من الخبراء والمستشرقين والعاملين في وزارته، نتج عنه تأسيس كل من إمارة شرق الأردن والمملكة العراقية الهاشمية. بعد سنوات، نقل عنه قوله الشهير إنه أنشأ الأردن “بجرة قلم في يوم من أيام الأحد.”

قائد الثورة العربية الكبرى الشريف حسين بن علي كان قد أصبح ملكاً على الحجاز، وفي أعقاب مؤتمر القاهرة، عُين نجله الأمير عبد الله أميراً في عمّان، وأصبح ثالث أبنائه الشريف فيصل ملكاً في العراق. كان فيصل قد تُوج ملكاً في سورية سنة 1920 ولكن الفرنسيين أطاحوا بحكمه، وطردوه يوم فرض انتدابهم على البلاد، وقد سعى لورانس إلى تعويضه، قائلاً لتشرشل إنه رجل مخلص ويستحق المكافأة.
يوم طُرِد فيصل من دمشق، شكل الأمير عبد الله جيشاً صغيراً، وتوجه من الحجاز إلى سورية لمحاربة الفرنسيين واستعادة عرش أسرته المسلوب، فطلب إليه الإنكليز – أو بالأصح تشرشل تحديداً – التوقف في شرق الأردن، وإقامة حكم “مؤقت في عمّان” تكون مدته ستة أشهر، ريثما يتبلور الموقف مع الفرنسيين. دعاه تشرشل إلى اجتماع في القدس، التي وصلها بالقطار مع لورانس قادما من القاهرة، وأقنعه بأن تكون عمّان عاصمته الجديدة ليحكمها هو وأولاده من بعده.

عرف لورانس الأمير عبد الله منذ عملهما المشترك في الثورة العربية الكبرى، وكان يراه مغرقاً في حبه للذات، عكس أخيه فيصل الذي وصفه بالرقيق و”النبيل.” تمكن لورانس من نقل هذا التقييم الإيجابي إلى تشرشل الذي تبناه ودعم الشريف فيصل بقوة إلى أن بدأ الأخير يطالب باتفاق مع الحكومة البريطانية، تضع العراق في مكانة ندية مع الإنكليز، وتحول الانتداب إلى معاهدة واضحة المعالم والأهداف. غضب تشرشل من طرح فيصل، وعده تمرداً، وسطر رسالة غاضبة له بتاريخ 17 أغسطس/آب 1922 مذكراً بالتكاليف التي تحملتها بريطانيا لأجله: “أود إبلاغ جلالتكم قلقي العميق من المسار الذي قررتم المُضي فيه. أخشى أنه قد يؤثر سلباً على فرص التعاون البناء بين الحكومة البريطانية والأسرة الشريفية.” ولكنه وبنصيحة من لورانس، عدل عن إرسال البرقية، ووافق على طلب فيصل، ما أدى إلى التوقيع على معاهدة مع العراق في أكتوبر/تشرين الأول 1922، أعطته استقلالاً محدوداً، وأبقت شؤونه الخارجية بيد الإنكليز.

الصهيونية وفلسطين

غضبت الحركة الصهيونية العالمية من قرار إنشاء إمارة شرق الأردن، واعتبرت أنه قلّص مساحة الأراضي المخصصة لليهود بموجب وعد بلفور. كانت علاقة تشرشل متينة بالصهاينة، وكثيراً ما كان يمدح قادتهم على وحدة هدفهم وعملهم المشترك لتحقيقه. لم يُخفِ هذا الإعجاب، ولا قلة احترامه للفلسطينيين، بتأثير واضح من لورانس أيضاً الذي كان يصفهم بالماديين و”المفلسين.” وفي 28 مارس/آذار 1921 التقى تشرشل بوفد من الأعيان الفلسطينيين في القدس، وقال لهم: “تطلبون مني التخلي عن وعد بلفور ووقف الهجرة (إلى فلسطين). هو أمر خارج صلاحياتي ولا رغبة لدي في تحقيقه.”

 

Getty Images

تشرشل في مقدمة أعضاء لجنة الرافدين أثناء اجتماعها في القاهرة في 1921 لبحث تقسيم بلدان المنطقة

وضع تشرشل تصنيفاً اجتماعياً هرميا للاعبين الأساسيين في المنطقة العربية، في قمته البدو العرب الذين كان معجباً بهم، ويقول دائماً إنه قادر على التعامل معهم بشكل بناء وإيجابي. جاء بعدهم تجار المدن الكبرى مثل دمشق، تليهم فئة المزارعين الذين ضم إليهم معظم أفراد الشعب الفلسطيني. وقد انعكس هذا الترتيب على تقييم تشرشل لزعماء المنطقة ككل، وهو ما يفسر إعجابه الشديد بالملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية الذي عبر عنه أيام الحرب العالمية الثانية: “أشيد بالملك العظيم ابن سعود، الذي في أحلك الظروف، لم يتوقف عن إرسال رسائل التشجيع وتأكيد إيمانه الراسخ بأننا سننتصر في هذه الحرب.”

 

وضع تشرشل تصنيفا اجتماعيا هرميا للاعبين الأساسيين في المنطقة العربية، في قمته البدو العرب الذين كان معجبا بهم، ويقول دائما إنه قادر على التعامل معهم بشكل بناء وإيجابي

 

 

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 تحول اهتمام تشرشل بالكامل إلى أوروبا، ولكنه ظل يعتمد على المنطقة العربية في شؤون لوجستية عسكرية وتجارية، ويهدف إلى حمايتها من النفوذ الألماني. في أكتوبر/تشرين الأول 1940، أي بعد خمسة أشهر من توليه الحكم، أمر ببناء مسجد لندن الكبير لاسترضاء مسلمي بريطانيا وكسب عقول مسلمي الوطن العربي وقلوبهم، مع المطالبة بولاء مطلق من قبلهم. وعندما رفض شاه إيران قطع علاقته بأدولف هتلر، أمر تشرشل – وبالتعاون مع حلفائه الروس – بغزو إيران والإطاحة بملكها في شهر أغسطس/آب 1941. خُلع رضا شاه عن عرش الطاووس، واستبدل به نجله الذي أكد لتشرشل أنه سيكون أكثر تعاوناً مع الإنكليز. وعندما سقطت سورية تحت حكم فيشي الموالي لألمانيا النازية، رتب تشرشل عملية غزوها عسكرياً مع قوات فرنسا الحرة التابعة للجنرال شارل ديغول. أُسقط حكم فيشي بدمشق، وعادت بريطانيا عسكرياً إلى الأراضي السورية سنة 1941، التي كانت قد دخلتها للمرة الأولى مع نهاية الحرب العالمية الأولى. حاول تشرشل مشاركة ديغول حكم سورية، ولكنه بدأ وبشكل ممنهج وواضح العمل على طرد الفرنسيين من دمشق عن طريق تقديم الدعم السياسي للحركة الوطنية في سورية.

بترتيب من الملك عبد العزيز والملك فاروق، التقى بالرئيس السوري شكري القوتلي في القاهرة في فبراير/شباط 1945 ومقابل دخول سورية الحرب مع الحلفاء ضد هتلر، دُعيت للمشاركة في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة، المنعقد في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية في نهاية شهر أبريل/نيسان 1945. رأى ديغول أن دعوة سورية تجاوز له من قبل تشرشل، وتطاول بريطاني فاضح على مناطق نفوذ فرنسا في الشرق الأوسط. وفي 29 مايو/أيار 1945 أمر ديغول بقصف العاصمة السورية، ورد تشرشل بإنذاره الشهير في 1 يونيو/حزيران 1945، مطالباً بوقف العدوان، وانسحاب فرنسا من سورية تمهيدا لإعلان استقلالها التام، وإنهاء ست وعشرين سنة من الحكم الفرنسي.

يرى بعضهم أن تشرشل هو الذي أقنع الفرنسيين بقصف دمشق ليتخذ من هذا القصف ذريعة لطرد فرنسا من سوريا. وكتب إلى ديغول: “إنكم تدركون أننا لم نطالب بأي امتياز خاص على حساب فرنسا الحرة، ولا ننوي استغلال وضع فرنسا الصعب لمصلحتنا. وبالتالي، أرحب بقراركم منح سوريا ولبنان وعدا بالاستقلال، وأؤكد مجدداً أهمية دعم هذا الوعد بكل ثقل ضماننا.”

***

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *