صادر من دمشق الشّام
سامي مروان مبيّض (دمشق، 27 أيلول 2018)
منذ بضعة أيام أعلن في لندن عن اكتشاف عدد من المراسلات العثمانية والعربية تمّت مصادرتها من قبل البحرية الملكية البريطانية، معظمها يعود إلى عام 1759. الكثير منها صادر عن تجّار مسيحيين دمشقيين، كانوا مقيمين إمّا في دمشق أو في مدن السواحل الأوروبية. كانت البحرية البريطانية يومها، ومن لفّ لفيفها من القراصنة، تقوم بعمليات سطو على السفن التجارية في عرض البحار، وتصادر البضائع الثمينة التي يمكن بيعها، مثل الخمور والجلود والأقمشة.
لم يكترث أحد من القراصنة لتلك المراسلات، معتبرين ألا قيمة لها وكان عددها 160 ألف وثيقة، وضعت في قبو بناء البحرية في منتصف القرن الثامن عشر قبل نقلها إلى المتحف البريطاني، حيث بقيت منسية حتى اليوم. تم اكتشافها مؤخراً، حيث كسرت أختام الشمع الحمراء وأفرج عن محتواها، لتؤكد أن تجار دمشق كانوا متابعين لكافة تفاصيل الاقتصاد الدولي ومتواجدين في كل مرفأ من مرافئ العالم القديم، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق.

نموذج من المراسلات.
في هذه الأوراق نجد تعليمات دقيقة موجهة من التجّار السوريين إلى وكلائهم، عن آلية تسعير الحرير، وإرشادات عن مواسم بيع البضائع، ونسبة التنزيلات المقبولة في كل واحدة منها. كما يوجد فيها تقييم دقيق لجودة المنتجات المحلية التي كانت ترسل تذهب إلى أوروبا وتلك التي كانت تصل إلى دمشق. الرديء منها كان يُرد فوراً مهما قلّ سعره. في الكثير من تلك الأوراق هناك رموز “تشفير” وضعها التجّار لحماية معلوماتهم التجارية السرية، لا يمكن لأحد إلا المتلقّي أن يفهمها ويفك طلاسمها.
في عدد من الرسائل يظهر اسم التاجر الشامي “يوسف بيكتي” أو “بوكتي،” المُقيم في مدينة ليفورنو الإيطالية الساحلية، والذي كان يُرسل بضائعه إلى ميناء الإسكندرية، ويشكو في مراسلاته مع أقربائه من سوء تعامل المصريين. تظهر رسائل أخرى باللاتيني، مرسلة من رجال دين في أوروبا إلى الكنائس والأديرة في بلاد الشّام. وفي بعض الأوراق شكاوى التجّار من الضرائب والأمراض والأوبئة، وكلام كثير عن مصاعب الحياة اليومية.
يبقى السؤال: أين نحن من هذا الاكتشاف، الذي من المفترض أن يعنينا نحن أكثر من الإنكليز؟ تخيلوا لو كان الأمر معكوساً، لو أننا عثرنا على مراسلات أجنبية في بلدنا، تعود إلى تجار فلورانس ومارسيليا، هل سيقبلون التنقيب عنها من دون إشرافهم؟ أين هو المتحف الوطني، والمكتبة الظاهرية، ومتحف الوثائق التاريخية؟ أين هي غرفة تجارة دمشق ولماذا لم تشارك جامعة دمشق في عمليات التنقيب والتحليل لهذه المراسلات؟ قد يكون الجواب أن أحداً لم يتصل بهم للمساعدة، أو أنهم لم يسمعوا بهذه الوثائق. هنا يأتي السؤال الثاني، وهو الأهم: هل يجب أن تبقى تلك الأوراق في أوروبا، أم أن يتم نقلها إلى دمشق، من حيث صدرت قبل 259 سنة؟
هل لأحفاد هؤلاء التجار السوريين الحق بمعرفة ما كتب أجدادهم قبل قرون؟
هل مكانها “هنا،” بين أكواب المتّة وسحب دخان الموظفين، على رفوف المستودعات يتراكم عليها الغبار قبل أن تفترسها القوارض أو تتحول أداة لمسح الزجاج؟ أم “هناك” في مراكز أبحاث ومكتبات عصرية ومحترمة؟
***
اترك رداً
تريد المشاركة في هذا النقاششارك إن أردت
Feel free to contribute!